تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وامتهان آدميته وذلك من القياس العجيب الذي برر به اولئك استيراد تلك النظم الخارجة عن النبوة بزعم الإصلاح فكان ما كان من إفسادهم في الأرض وهو أمر نعيشه في كثير من بلاد المسلمين إلى يوم الناس هذا، فكل من يعترض على سياساتهم الفاشلة: يستحق النفي وربما القتل، والشاهد أن تحقير شان الإنسان: خليفة الرب، جل وعلا، في كلا المعسكرين حاصل بل واجب فلا بقاء لهما إن أحس الإنسان بآدميته الحقيقية، فالنبوات وحدها هي التي كرمت الإنسان فتوجته بمنصب الخلافة فهو المأمور المنهي لكمال اصطفائه، فلا يتوجه الأمر والنهي إلا لمن عظم شأنه، فاكتملت قواه العلمية والعملية فصار أهلا للتكليف، فهو تشريف من وجه، وإن لم يخل من معاني الابتلاء التي يظهر الرب، جل وعلا، بها مكنون النفوس.

والإنسان من وجه آخر: خليفة عن غيره على جهة النقص، سواء أكانت الخلافة خاصة، فيولي الخليفة العام أو الملك أو السلطان غيره: ولايات خاصة في مصر أو إقليم بعينه، أم عامة كالخلافة التي تجمع كلمة المسلمين على إمام واحد، وتلك هي الخلافة التي يعنى علماء السيرة والسياسة الشرعية ببيان حدها وأحكامها، فقد عرفها الماوردي، رحمه الله، بقوله: "الإمامة، وهي مرادف الخلافة في هذا الباب: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وعرفها الإيجي، المتكلم المعروف، رحمه الله، بقوله: "هي خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة"، وعرفها إمام الحرمين الجويني، رحمه الله، بقوله: "الإمامة: رياسة تامة وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا" ابن خلدون، رحمه الله، بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة"، وعليها حمل المانعون إطلاق لقب الخلافة عن الله، عز وجل، على الإنسان، فجعلوا الخلافة في نحو قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، خلافة بعضهم لبعض، قكلما مات خليفة قام آخر سواء أكان ذلك في ولاية عامة أم خاصة كما تقدم، وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة" بقوله: "والمقصود هنا أن الله لا يخلفه غيره فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره وهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات جميعا بل هو سبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله ويروى أنه قيل لأبي بكر يا خليفة الله فقال: بل أنا خليفة رسول الله وحسبي ذاك". اهـ

ولا مانع من الجمع بين كلا المعنيين، كما تقدم، فالقيد في كليهما مختلف، فليست خلافة الابتلاء من جنس خلافة الإنسان لغيره، فالأولى: مئنة من كمال وصف الرب، جل وعلا، فهو الحكيم في فعله العدل في حكمه، فاستخلف الإنسان لتظهر آثار حكمته وعدله فيتعلق الثواب أو العقاب بفعل العبد فهو الشاهد عليه، فـ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، و: (وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فمن حكمته ورحمته، جل وعلا، أنه لا يؤاخذ العباد بما قد علمه من حالهم أزلا، فلا مؤاخذة إلا بعد وقوع الفعل فيصير موجودا تتعلق به الأحكام: مدحا أو ذما، وعدا بالثواب أو وعيدا بالعقاب، بينما الثانية كما يظهر في عالم الشهادة: مئنة من النقصان، بل هي عينه، فلا يستخلف الإنسان غيره إلا لقصور مداركه عن إدراك كل ما يقع في ملكه، فيخفى عليه ما يخفى لغيابه بذاته ووصفه، وبذلك احتج الخليل عليه السلام على قومه، فـ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)، فالآفل: غائب، والغائب لا يصلح أن يكون ربا، فالرب، هو الذي يدبر أمر عباده، وذلك يستلزم دوام اطلاعه عليهم فلا يخفى عليه من أمرهم شيء، وذلك وصف الرب، جل وعلا، وحده، فـ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، فأكد بالناسخ المؤكد واسمية الجملة وتكرار الفاعل، واستيعاب النفي لجنس السماء والأرض، فـ: "أل" في كليهما جنسية استغراقية فضلا عن تكرار النفي فذلك من الإطناب بالتكرار مئنة من التوكيد، فظهر بنقصان خلافة العبد لمثله لنقص في ذاته ووصفه: كمال خلافة العبد لربه، جل وعلا، على جهة الابتلاء، فاستخلفه، وهو المطلع على حاله العالم بسره وعلنه، فاستخلافه له مئنة من كمال ذاته القدسية وما قام بها من الصفات العلية: حكمة ورحمة وسمعا وبصرا وعلما ....... إلخ من أوصاف الربوبية التي بها أوجد الرب، جل وعلا، الكون، وبها يدبر أمره، فـ: (عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير