تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ):

فذلك على تقدير وأرسلنا لوطا حملا للمتأخر على المتقدم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك أولى في التقدير ليتسق السياق، فتقدير المحذوف من جنس المذكور أولى من تقديره من جنس غيره.

فقال لوط عليه السلام لقومه في معرض الإنكار والتوبيخ على قومه لارتكابهم تلك الفاحشة، التي استجمعت كل أوصاف القبح، فحسن الإتيان بلفظ: "الفاحشة"، فهي تستجمع كل أوصاف القبح، كما قيل في لفظ كـ: "اللؤم"، فهو يستجمع كل الأوصاف النفسانية المرذولة، فـ: "أل" في الفاحشة: عهدية تشير إلى فاحشة بعينها، وهي في نفس الوقت: جنسية استغراقية لأوصاف القبح فذلك أدعى إلى التنفير من تلك الفعلة، التي تنفر منها الطبائع السوية، وإن لم يكن أصحابها من أتباع النبوات، فهي فعلة ينحط فاعلها إلى دركة أحط من درجة الحيوان، فالحيوان البهيم يترفع عن هذه الفاحشة، فهو بما جبل عليه من الطبائع البدنية والقوى الحيوانية لا يتحرك إلا بمقتضى فطرة سوية وإن كانت غريزية، فليس من أهل التكليف لنقصان آلته العقلية، ولكنه، من جهة سلوكه الجادة الفطرية، في أفعاله الجبلية من غذاء ونكاح، بل في تسبيحه الذي يوقعه على جهة التسخير فهو خير من المكلف الذي يترك التسبيح اختيارا، فذلك، أيضا، من انحطاطه عن درجة الحيوان الذي صار مكرما عليه من جهة التسخير فطبائعه الجبلية، وتسبيحاته الفطرية، قد صيرته أرقى رتبة من الإنسان، فهو، إما مصطفى مكرم بحمل الأمانة على جهة التكليف الاختياري، وإما مهان قد انحط بإعراضه عن منهاج النبوات، فالحيوان البهيم خير منه، فقد أدى وظيفته، ولو اضطرارا، وحال كثير من البشر في زماننا، قد صار من النوع المهان، فقد انحطت كثير من الجماعات الإنسانية، فأقرت تلك الفاحشة، وصيرتها جزءا من منظومة القيم، فهي من جملة الحريات العامة التي انتزعتها الثورة العلمانية من دين الكنيسة، فانقلبت على المنظومة الدينية والأخلاقية لمجتمع القرون الوسطى، الذي ذاق مرارة الحرمان من الحريات الفكرية والإنسانية بما قيدته به الكنيسة من آصار حجرت بها على العقول والأبدان، وجاء الانقلاب، كأي ثورة عشوائية، على كل قييح وحسن، فانقلبت أوروبا على أخلاق المجتمع الزراعي المحافظ مع ما انقلبت عليه من دين الكنيسة البالي، وذلك من عشوائية الفكر وتطرف ردود الأفعال التي تميز بها العقل الأوروبي المعاصر، كما حكى ذلك بعض الفضلاء المعاصرين في معرض رصد الحركة الفكرية الأوروبية المعاصرة، فهي جملة ردود أفعال متطرفة لبعد أوروبا طوال تاريخها عن دين النبوات الصحيح، فلم تعتنق يوما دين المسيح عليه السلام، كما نزل من عند الله، عز وجل، فكان اعتناق الإمبراطورية الرومانية له طوق نجاة أخير لإنقاذ الإمبراطورية من الانهيار، فهو عقد جامع، لشعوب الإمبراطورية، ولو كان على غير الدين الصحيح الذي يأبى الانقياد له أصحاب السياسات الملوكية الجائرة، فإنه ينزع ملكياتهم الجائرة للأرض والبشر، فيردها إلى الملك، جل وعلا، فلا يهادن الساسة الدين إلا لتحقيق مآرب شخصية عاجلة، فيرضون بالدين الذي يوافق أهواءهم، وقد وجد قسطنطين ضالته في دين وجداني قد فصلت فيه الشريعة عن العقيدة، فأعط ما لله لله، وأعط ما لقيصر لقيصر، ولم يكن قسطنطين إلا قيصرا من قياصرة الإمبراطورية الرومانية فأبى أن يعطي ما له لله، الملك الواحد، تبارك وتعالى، فالأمر كله له، إذ الخلق والتدبير كله له، فذلك جار على ما تقرر في أكثر من موضع من التلازم الوثيق بين الربوبية تصورا وعلما والألوهية عملا وحكما. فكان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير