تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الدين حلا مؤقتا لوضع سياسي متأزم، فهو عقد وجداني لا أثر له في الشرائع والسياسات والأخلاق، فليس إلا تصورا باطنا لا يظهر أثره في واقع الحياة، فمن أراد أن يرتكب فاحشة قوم لوط، فله ذلك، بل له من الحريات ما يكفل له ذلك، إذا تراضى الطرفان، بل له الحماية الدستورية التي تكفل له حرية الاعتقاد العلمي والمسلك العملي، فلا يملك أحد الاحتساب والإنكار عليه، فلو حصل ذلك ممن له بقية آدمية فضلا عن أن يكون ذا دين، فهو الملوم المذموم لخروجه عن منظومة القيم الأوروبية التي تطرفت في منح الحريات، كرد فعل لتطرف الكنيسة في قمعها، فالمسألة، كما تقدم، مردها إلى التطرف الفكري الذي تعاني منه العقلية الأوروبية، فلا تحسن إلا الانقلابات والثورات على المبادئ والقيم لا سيما إن كانت دينية، فالدين في وجدانها رمز التسلط والقهر، وهو ما نجح كثير من العلمانيين المعاصرين، في تمريره إلى العقل المسلم المعاصر فقيس دين الحنفية التوحيدي على دين الكنيسة التثليثي.

والشاهد أن لوطا عليه السلام قد أنكر عليهم، بمقتضى ما عنده من الطبع السليم الذي وافق ما أُنزِل عليه من الوحي الصحيح، فصدق التشريع الإلهي بتحريم الفواحش: التكوين الرباني للنفوس السوية التي تأنف من كل ما يخدش الحياء ويضاد الفطرة، فالنفوس قد ركزت فيها قوى التحسين والتقبيح، وإن لم تستغن بذلك عن تحسين وتقبيح الشرائع السماوية التي فصلت القول في الحكم: تحليلا وتحريما، والمآل: ثوابا وعقابا.

فإذا نظر إلى معنى العهد في: "الفاحشة"، يكون قوله تعالى: (ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ): حالا مقيدة، إمعانا في الإنكار عليهم، فقد أكدت أوليتهم في هذا الشأن القبيح، بورود النكرة: "أحد" في سياق النفي بـ: "ما"، فضلا عن دخول: "من" المؤكدة للعموم عليها، وإذا نظر إلى معنى الجنسية الاستغراقية لأوصاف القبح فإن لفظ: "الفاحشة" ينزل منزلة النكرة، فكلاهما مظنة الشيوع والعموم في بابه، فقد استجمعت تلك الفعلة، كما تقدم، كل أوصاف القبح والذم، فهي نص في عموم قد استغرق كل ما يذم به فاعله، فإذا نظر إلى ذلك المعنى، فقوله تعالى: (ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ): وصف لوروده بعد لفظ منكر في معناه وإن كان معرفة في مبناه، وهو، أيضا، قيد يزيد معنى الإنكار والتوبيخ بيانا وتوكيدا.

ثم جاء البيان بعد الإجمال، فقوله: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ)، فذلك بيان لحقيقة الفاحشة التي تلبسوا بها على جهة التعيين، مع الحفاظ على أدب الخطاب، فلفظ الإتيان كناية عما يستقبح ذكره، وإن كان مشروعا، كالذي يقع بين الرجل وأهله، فكيف بما يقع على هذا الوجه الفاحش؟!، وجاء التوكيد بالناسخ: "إن" واللام في: "لتأتون": تنزيلا لهم منزلة المنكر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد بلغ فساد الجبلة منهم مبلغه، فلم يعد ذلك الأمر مما يخجل فاعله منه، فيرتكبه سرا، بل قد استعلنوا بالفاحشة، فـ: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)، وذلك آكد في القبح، فإن الإمعان في استحلال المنكر حتى يصير معروفا، ويصير منكره هو الخارج عن عرف الجماعة العام، كل أولئك مما يناسبه التوكيد في معرض الرد، لإعادة الأمور إلى نصابها، ورد الفطرة إلى أصولها، وذلك من جنس ما يقع الآن في زماننا، بعد أن خفتت أضواء النبوة في كثير من الأمصار، بل أظلمت بلاد وأقفرت من النبوات، فقد استعلنت أمم كثيرة بأنماط من الفواحش يندى لها جبين أي آدمي، فضلا عن أن يكون ذا دين أو خلق أو حتى جبلة سوية، وانتقلت أمم من عصر الأخلاق الزراعية إلى عصر الأخلاق الصناعية، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فانتهت معان من قبيل: الزوجة والأسرة والستر والعفة ...... إلخ من المعاني الرجعية التي قضت عليها الثورات الصناعية ثم الشيوعية التي جعلت هدم البنيان الأسري غاية شريفة لها لإعادة البشرية إلى عصر الشيوعية الأولى، حيث لا ملكية ولا اختصاص، بل كل شيء، حتى الأعراض!، مشاع، فهو كلأ مباح لكل راع، فتلك الصورة المثلى للنوع الإنساني عندهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير