تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خصومها من طرائق البشر المحدثة سواء أكان ذلك في العقائد أم الشرائع أم الأخلاق أم السياسات، فالنبوة منصب لا يقبل الشركة من عقول البشر المضطربة التي تحسن وتقبح تبعا لأهوائها وأذواقها.

فالكلام من قبيل الذم الذي أريد به المدح، في حقيقته، فلم يريدوا مدح لوط وأهله بطبيعة الحال!، وجاء الوصف: "يتطهرون": مضعفا، فهو دال على تكرار الوصف فهو ملكة راسخة لا حال طارئة، وهو من وجه آخر دال على تكلف صاحبه وحرصه على مباشرة أسبابه والتنزه عن أضداده، فتطهر أبلغ في الوصف من: "طهر"، ولذلك رجح جمهور أهل العلم، خلافا لابن حزم، رحمه الله، عدم جواز إتيان الحائض إن انقطع دمها إلا بعد الغسل، لدلالة لفظ: "تطهرن" في قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، على تكلف أسباب الطهارة، وذلك لا يكون في رفع الحدث الأكبر إلا بالغسل فضلا عن دلالة قراءة: (يطَّهرن)، على نفس المعنى، فالتضعيف في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى بتكلف أسبابه، والشاهد أن هذا التضعيف الذي ذيلت به الآية: آكد في الذم في عرف من اختل ميزانه وفسد قياسه فكلما ازداد خصمه زكاء ونقاء، ازداد في نظره خبثا وفسادا.

ولما جاء التهديد بالإخراج، جرت السنة الكونية في معرض الانتصار للأنبياء عليهم السلام، فهي من أظهر صور العناية بهم، جرت بإهلاكهم بعذاب بئيس عام، فذلك من عذاب الاستئصال الخاص لأمة مكذبة بعينها، فلم يؤمر لوط بجهاد، وأنى له ذلك وهو القائل: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، فآواه الرب، جل وعلا، إلى ركنه، وانتصر ممن كذبوا وهموا بإخراجه وأهله فـ:

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ: فالفاء مئنة من الفور والتعقيب، وذلك آكد في بيان عظم عناية الرب، جل وعلا، بنبيه الكريم لوط وأهله، عليهم السلام، فناسب ذلك أن يسند الفعل إلى ضمير الفاعلين، فذلك آكد في بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، ورحمته في استنقاذ لوط وأهله، علهيم السلام، من عذاب الاستئصال الذي نزل بقومه، واستثنيت امرأته فهي من الغابرين لقيام وصف الكفر بها، والرضا بصنيعهم، بل والمعاضدة عليه، كما قد جاء في بعض الآثار، فخرجت من أهله بالنظر إلى معنى الأهلية الشرعية، وإن لم تخرج بالنظر إلى الأهلية العرفية، كما قد خرج ابن نوح عليه السلام من أهلية الدين، وإن لم يخرج من أهلية النسب فـ: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). فوصف الإنجاء للأنبياء عليهم السلام وأهليهم وأتباعهم من أوصاف فعله المتعلقة بمشيئته العامة النافذة، التي يظهر بها جمال وصفه، فهي مئنة من رحماته، جل وعلا، بعباده المؤمنين رحمات خاصة في الدنيا بالنصر ولو استبطئ، فذلك من تمحيص الرب، جل وعلا، لما في الصدور، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب ودخول دار النعيم السرمدي في جوار الرب العلي تبارك وتعالى.

وإمعانا في تقرير المنة وإظهار لكمال العناية بلوط عليه السلام وأهله، جاء الضد من الإنجاء بالإهلاك، وهو أيضا، من أوصاف الرب، جل وعلا، الفعلية، ولكنه على الضد من الأول، فهو مئنة من جلال وصفه، تبارك وتعالى، بإيقاع العذاب بالمكذبين، فناسبه، أيضا، الإسناد إلى ضمير الفاعلين، فذلك مئنة من عظم قدرته، فلا يعجزه إهلاك أعدائه كما لا يعجزه إنجاء أوليائه، فيكون الإسناد إلى ضمير الفاعلين في هذين الموضعين جار مجرى الاشتراك اللفظي، بل التضاد، فهو في موضع: مئنة من جمال الرب، جل وعلا، بإنجاء أوليائه، وفي آخر لاختلاف القيد: مئنة من جلاله بإهلاك عدوه، وكلاهما، عند التدبر والنظر، يصب في قناة العناية بالرسل عليهم السلام، فالسنة المطردة: ظهورهم على عدوهم مع قلة عددهم وعتادهم، فإن لم يكونوا مقاتلين قد شرع لهم جهاد عدوهم، فالعذاب النازل من السماء، وإن كانوا مقاتلين، فالنصر، وإن ابتلوا، بظهور عدوهم عليهم في بعض الوقائع، تمحيصا للصدور، كما تقدم، كما قد جرى للطائفة المؤمنة يوم أحد، فـ: (مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير