تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، فما جلس صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى معلم قبل بعثته، وما نظر في كتاب عربي، فضلا عن أن ينظر في الكتاب العبراني، فرصيده من علوم الأوائل كرصيد العرب من الفلسفات الأرضية، فقد امتازت تلك البيئة بعزلتها ونقائها الفكري، إن صح التعبير، فلم يكن فيها من العلوم الجدلية والفلسفية ما في سائر البيئات التي ازدهرت فيها المدنيات كفارس والروم، فكان ذلك، كما يقول بعض أهل العلم، حسما لمادة الشبهة، لئلا يدع مدع بأن هذه الرسالة الخاتمة هي نتاج تراث فكري أو فلسفي متراكم، فيصير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفكرا أو فيلسوفا أو مصلحا أو حتى ثائرا!، كما قد رام ذلك كثير ممن أعجب بشخصه الكريم وبهر برأيه السديد، مع إنكاره للوحي، كمفكري الغرب، أو تحقيره من شأنه، والضمير راجع على الوحي، كما هي حال كثير من مفكري الشرق لا سيما العقلانيين واليساريين الذين ردوا تلك الآراء السديدة والسيرة الحميدة التي تحمل كل منصف على احترام صاحبها وتقديره، ردوا كل ذلك إلى ملكاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم النفسانية، وهي ملكات عظيمة بلا شك، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هملا قبل البعثة بل كان من أكمل رجالات قريش عقلا وفضلا، فكان المؤتمن على الودائع، المستشار في النوازل، الحكم في المنازعات كما قد وقع في حادثة بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود، فقد شهد من كذبه على نفسه، فرضي القوم بالصادق الأمين، وهم بعد ذلك الذين كذبوه ورموه بالسحر والمس!. فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عظيم، ولكن تلك العظمة الأرضية لا تكفي لنيل منصب الرسالة، فليست الرسالة مما ينال بالاكتساب، بل هي محض هبة ربانية يضعها الرب، جل وعلا، بحكمته، حيث يشاء، فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فنزل الوحي على محل قابل لآثاره فهو من الطهر والنقاء بمكان، وذلك أمر شهد به أعداء النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسيرته قبل البعثة أطيب سيرة، بل قد توسمت فيه أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، وكانت ممن عنده علم بشأن نبي آخر الزمان، توسمت فيه أنه المصطفى لحمل آخر الرسالات لما قد اشتهر به من شمائل الخير ومكارم الأخلاق، فالنبوة مرتبة فوق مرتبة الداعية أو المصلح أو الثائر .... إلخ من المناصب البشرية، ففيها من الاصطفاء ما ليس في غيرها، وفيها من التأييد بالآيات الكونية والشرعية ما ليس في غيرها، وفيها من الإخبار بجملة من الغيوب الماضية والتالية ما يواطئ الحقيقة فلا يعلم بشر ذلك إلا من جهة الوحي المعصوم، فالصادق لا يكذب، والكاذب قد يصدق، كما يصدق الكهان، في بعض كلامهم، ولكن آخره ينقض أوله، فلا بد أن يقع في الكذب وإن أظهر الصدق وتكلفه، فالنبوة مرتبة لا واسطة فيها، لعظم شأنها، فإما أن يدعيها أصدق الصادقين، وإما أن يدعيها أكذب الكاذبين، والفرقان بينهما يسير على من أنار الرب، جل وعلا، بصيرته، فنظر في مقالة كليهما، مؤيدا بدلائل النبوة الصحيحات، فتنكشف له حال الصادق من الكاذب، وذلك، أيضا، من أدلة عناية الرب، جل وعلا، بالبشر، أن يسر لهم وسائل المعرفة في أمر عظيم وقضية جليلة كالنبوة، فأقام من الدلائل على تواترها في النوع الإنساني وصحة دعوى من ادعاها من الرسل عليهم السلام ما حصلت به الكفاية، فالشيء، كما يقول بعض المحققين من أهل العلم، كلما اشتدت إليه الحاجة يسر الرب، جل وعلا، أسبابه، ولا أشد حاجة للبشر من النبوات فهي معدن السعادة في الأولى والنجاة في الآخرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير