تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجملة من أخبار الماضين على ما قد وقع فعلا، بل أخبر يهود بفضائح اجتهدوا في كتمانها، كواقعة أصحاب السبت، فلو فرض جدلا أنه جلس إلى معلم منهم، وهم أشح الناس، فكتمان الحق فيهم سجية، وبخلهم بما في أيديهم المغلولة من أمر دين أو دنيا، أمر معروف مشتهر، فلو جلس إليهم فلن يخبروه قطعا بفضيحة اجتهدوا في كتمانها، فمن أين له العلم بذلك، ومن أين له العلم بإخفائهم آية الرجم حال قراءتهم لها أمامه، لما أخفاها القارئ بيده، وهو، صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا علم له بالخط العربي فضلا عن الخط العبراني؟!، ومن أين له ما قد أخبر به من الأمور المستقبلة مما قد وقع ولا يزال يقع على ما قد أخبر، بل إن ما نحن فيه الآن من ضعف وانكسار، هو في حقيقته، تأويل خبره الصادق: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"، فهو عند التحقيق، من دلائل نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك، كما تقدم، من أظهر أدلة عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتأييده بخبر الوحي الصادق.

وجاء التقييد بالحال: "بِالْحَقِّ": فالباء للمصاحبة والملابسة، جاء التقييد بها إمعانا في تأييده صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معرض التحدي، فليس لها مفهوم، فليس من القصص ما هو بباطل وآخر بحق، بل كله بالحق بداهة، وإنما نص على ذلك في هذا الموضع، مع كونه معلوما بالضرورة، إمعانا في تأييده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما تقدم.

ثم جاء البيان لما قد أجمل من نبأهم في صدر الآية، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فـ: إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ: فتعلق الإيمان بوصف الرب، جل وعلا، فذلك جار على ما تقدم مرارا من التلازم الوثيق بين فعل العبد تألها وعبودية، فالإيمان أصل كل حركة باطنة وظاهرة برسم التعبد، وفعل الرب، جل وعلا، ربوبية بالإيجاد، وهو ما قد قاله الفتية فـ: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فهو الرب الموجد لأعيانها المدبر لأحوالها بما ينتظم به أمر الخلائق، ففي خلق السماوات والأرض من أدلة الإيجاد المعجز والعناية بتدبير حركات الأفلاك ومقادير الأرزاق .... إلخ، في ذلك من دلائل ربوبيته العامة، تبارك وتعالى، ما فيه.

ثم جاء التثبيت من الله، عز وجل، لتلك الثلة المؤمنة، فذلك من عنايته، عز وجل، الخاصة بأوليائه، فهي، كما تقدم في أكثر من موضع، قدر زائد على العناية العامة التي تكفل بها الرب، جل وعلا، لسائر الخلائق، فذلك فرع عن الربوبية فمنها أيضا: ربوبية عامة: ربوبية الرحمن بالرحمات الكونية من غذاء للأبدان وهدى على جهة الدلالة والإرشاد ببعث الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب، و: ربوبية الرحيم الخاصة بالرحمات الشرعية فلا ينالها إلا المؤمنون، فهداية التوفيق والإلهام مما قد استأثر به الرب، جل وعلا، فـ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فيهبها من شاء فضلا ويحجبها عمن شاء عدلا، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، لكمال قدرته النافذة وكمال حكمته البالغة، فهو الذي خلق القلوب وقدر مقاديرها، فيحل فيها من الهدى أو الضلال ما يلائم قدرها، فمن القلوب أوعية تسع من العلوم والأعمال ما تسع، ومنها قلوب قد طبع الرب، جل وعلا، عليها، بالطابع الكوني النافذ، فلا يجد الهدى إليها سبيلا، فكل أبواب الخير إليها موصدة، وكل أبواب الشر إليها مشرعة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير