تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فثبتهم الرب، جل وعلا، فـ: زِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ: فجاء الفعل مسندا إلى ضمير الفاعلين في: "زدناهم" و: "ربطنا" فذلك، كما تقدم في أكثر من موضع، مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بعباده المؤمنين، فالمقام مقام: عناية يلائمه الإسناد إلى ضمير الفاعلين فذلك ركن شديد يأوي إليه كل مؤمن طريد، فإذا خرج فارا أو أخرج من قريته، فالرب، جل وعلا، مستنده، فهو الموصوف بكمال صفاته جلالا فينتصر من أعدائه لأوليائه، وجمالا، فينتصر لأوليائه من أعدائه، ويحوطهم بعنايته، كما قد وقع لأولئك الفتية: (إِذْ قَامُوا فقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)، فمعنى التعليل في: "إذ": ظاهر، فما كان من عناية بهم، فلأنهم قاموا، والقيام، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، يحتمل القيام الحقيقي فكانوا جلوسا فقاموا إمعانا في الاستعلاء بإيمانهم، ويحتمل القيام بالأمر، فيكون من قبيل المجاز، عند من يقول بالمجاز في الكتاب العزيز، فقاموا بأمر العبودية خير قيام، فلن يعبدوا، وجاء لفظ الدعاء نائبا عنه، إذ الدعاء من أظهر صور العبادة، بل هو العبادة، كما في حديث النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، مرفوعا: "الدعاء هو العبادة"، فذلك من القصر، فيحتمل القصر الإضافي إمعانا في التنويه بشأن عبادة الدعاء، أو القصر الحقيقي، فإن كل العبادات ترجع في حقيقتها إلى عبادة الدعاء، ففي كل العبادات مناجاة للرب، جل وعلا، استنزالا لرحماته، واستدفاعا لنقماته. فلن يعبد أولئك من دونه، جل وعلا، إلها، فهو الإله الحق، إذ هو الرب الحق الذي خلق السماوات والأرض، كما قد تقدم من كلامهم، ولازم ذلك أنه العليم الخبير فـ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فيعلم حال العبد وما يلائمه من الأرزاق الكونية فأحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث، وما يلائمه من الأرزاق الشرعية فأنزل له الكتب وبعث له الرسل، عليهم السلام، بأشرف أجناس الغذاء، فهو الطيب الناصح الذي لا شوب فيه ولا كدر في مقابل ما يشوب مقالات البشر من خروج عن شريعة السماء، بل عن قانون العقل والفطرة المركزة في النفوس بمقتضى الجبلة الأولى، فإذا ترك البشر لعقولهم فعزلت النبوة عن منصب الدلالة والإرشاد ابتداء، وعزلت النفوس عن منصب الخضوع والانقياد تصديقا بأخبار الرسالات وامتثالا لأحكامها، إذا وقع ذلك وقع في العالم من الشرور والمفاسد ما قد ظهرت آثاره في زماننا، فشمس النبوات قد أفلت في كثير من أمصار الأرض، وخفت ضوءها في أمصار أخر، فنزل بالبشر من شؤم الإعراض عن الوحي ما قد نزل، فضيق في الأرزاق، وخوف قد ملأ القلوب، وهم وحزن قد أقعد أصحاب الهمم، وليس ثم سبيل لرفع هذا البلاء إلا بمراجعة الدين الخاتم، فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، فقد دخل السلف كافة فكان ما كان من تمكين، وأعرض الخلف عن جملة بل جمل من أحكامه، فإلى أمثالهم يتوجه خطاب الإنكار: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، فمنهم من كفر بلسان مقاله تصريحا، فزعم أن النبوة لا تصلح لتسيير أحوال الناس في هذا الزمان، فقد نزلت في بيئة صحراوية مقفرة على ثلة من البدو لا علم لهم بأدوات الحضارة المعاصرة!، ومنهم من هو في شك بلسان حاله، ففي صدره حرج لا يبديه من أحكام النبوة، فعقله يرد كثيرا من أحكام الشريعة فليتها ما نزلت!، لما يتوهمه من عدم ملاءمتها لمقتضيات العصر، فهي تسبب له إحراجا في عالم قد كفر بالرسالات، وآمن بمقررات العلمانية التي نقضت غزل الدين في أوروبا وأحالته إلى التقاعد بعد طول استبداد، وقياس دين الإسلام على دين الكنيسة، كما تقدم مرارا، قياس مع الفارق، فهو قياس فاسد الاعتبار لمن تأمله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير