تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فربط الرب، جل وعلا، على قلوبهم، فذلك من قبيل استعارة الربط المحسوس للربط المعقول، وتعديه بـ: "على" إمعان في تقرير المعنى فهي تفيد الاستعلاء، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذلك من العناية بهم بمكان، والشطط الذي ذيلت به مقالتهم من قبيل الاستعارة، أيضا، فهو مئنة من التباعد، فكذلك من دعا مع الرب، جل وعلا، غيره، فقد تباعد من النبوات العاصمة فهو في أسباب الهلاك في الدارين قد وقع إلا أن يرجع إلى سبب النجاة الوحيد، فلا صلاح للأولى والآخرة إلا باقتفاء آثار الأنبياء عليهم السلام.

ثم استنكر أولئك الأفاضل حال قومهم لما قد أنعم الرب، جل وعلا، عليهم به، من الفطرة السوية، فلا يسوي العاقل المسدد بين آلهة لا برهان عليها، وبين الإله المعبود بحق الذي قامت كل دلائل النقل والعقل والفطرة والحس على وحدانيته في أفعاله الكونية النافذة، فلازم ذلك، كما تقدم مرارا، توحيده بكلماته الشرعية الحاكمة، فأشاروا إلى قومهم مئنة من التحقير: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً)، فالإشارة إلى البعيد في معرض الذم مئنة من النقصان، بخلاف الإشارة إليه في معرض المدح، فالسياق قيد فارق بين المعنيين وإن كان مبنى الإشارة اللفظي للبعيد واحدا، فـ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً: فالاتخاذ مئنة من التكلف فما حملهم على ذلك إلا الهوى المستحكم، فليس لهم، كما تقدم، دليل مرضي، فـ: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ: فذلك من الحض في معرض التحدي زجرا لهم، ثم جاء التذييل بالاستفهام الإنكاري التوبيخي إمعاتنا في تقرير بطلان ألوهية معبوداتهم في مقابل ألوهية المعبود بحق، تبارك وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا: فلا أظلم ممن افترى على الله، تبارك وتعالى، كذبا، فسوى بين أعظم متباينين: الرب المعبود بحق، والآلهة المعبودة بالباطل، فذلك مئنة ظاهرة من فساد القياس، فالصريح منه يقتضي التفريق بين المتباينين: فللرب، جل وعلا، من أوصاف الكمال الذاتي والوصفي والفعلي ما ليس لتلك الآلهة الباطلة بداهة، فليس لأحد في هذا الكون شركة في إيجاد أو تدبير، فالرب، جل وعلا، قد استقل بالملك والتدبير ولوازمهما من الخلق والرزق .... إلخ، فلا يدبر الأمر إلا هو، بل لا تدبر الملائكة، وهي أعظم جنده، أمرا إلا بإذنه فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ: فذلك من تصديق القول بالفعل، فاعتزلوا المنكر لما عجزوا عن إنكاره، فاعتزالهم لآلهة قومهم إلا الله، يحتمل الانقطاع، إن كان القوم كفارا لا يعبدون الله، عز وجل، ابتداء، أو الاتصال إن كانوا مشركين يعبدونه ويعبدون غيره من الآلهة معه، كما قد قال غيرهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: فرار بدينكم و: "أل" في الكهف تحتمل الجنسية فتكون لبيان الماهية فلا تعم سائر الكهوف بداهة فلن يأوي القوم إلا إلى كهف واحد أو عدة كهوف لو اضطروا إلى تقسيم أنفسهم أو تبديل محل إقامتهم باستمرار إمعانا في التمويه!، وتحتمل العهد لو أريد كهف بعينه، وأيا كان الأمر، فذلك سبب في حصول عناية الرب، جل وعلا، بنشر الرحمات الخاصة بأوليائه، فجاء المضارع مجزوما في جواب الأمر: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ: على تقدير شرط محذوف، فإن تأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، وفي تعليق المشروط على الشرط ما يدل على عظم يقينهم بالله، عز وجل، فالأمر سنة كونية قد أوجبها الرب، جل وعلا، على نفسه، فـ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): عامة كانت بكل الخلائق وخاصة بعباده المؤمنين، و: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فنصره إياهم من أظهر أدلة عنايته الخاصة بأوليائه، وجاء نشر الرحمة من قبيل الاستعارة، أيضا، فهو مئنة من العموم، المستغرق للأنواع والأعيان والأحوال والمكان الذين حل فيه القوم، فتنزلت عليهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير