تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

: (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وذلك، أيضا، من عنايته عز وجل بعباده فلا يحكم فيهم إلا بالعدل بل قد حكم في بعضهم بالفضل كما تقدم، ثم انفرد، تبارك وتعالى، بهداية التوفيق والإلهام، كما تقدم، فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فهو ذو الفضل العظيم فلا راد لفضله فـ: (إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وهو مع عظيم عطائه وسعة رحمته ونفاذ قدرته فلا راد لمشيئته: حكيم لا يضع الهدى إلا في المحل الملائم له، كما لا يضع الضلال إلا في المحل الملائم له، فجاءت المقابلة استيفاء لشطري القسمة العقلية، فذلك من الاحتراس لئلا يظن ظان انفراد الرب، جل وعلا، بالهداية دون الضلال، كما قد ظن ذلك من ظن من الثنوية القائلين بإله للخير وآخر للشر، أو القدرية، فمنهم من نفى خلق الرب، جل وعلا، لأفعال العباد عموما، ومنهم من شابه الثنوية، فقال بأن الله، عز وجل، يخلق الهدى والخير في قلوب عباده ولا يخلق الضلال والشر، والصحيح أن كلا من قدره الكوني النافذ، فـ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا. وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا)، كما قد نص على ذلك الطحاوي، رحمه الله، في عقيدته المعروفة، فاستيفاءً لشطري القسمة العقلية إمعانا في بيان قدرة الرب، جل وعلا، على تصريف القلوب على الخير أو الشر كما تقدم: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا: على جهة التأبيد لا لدلالة "لن" المعجمية على ذلك وإنما لقرينة السياق التي دلت على انفراد الرب، جل وعلا، بتصريف القلوب، فهي بين الفضل والعدل تدور، فلن تجد لمثل هذا وليا مرشدا، فتلك نكرات في سياق النفي تفيد العموم المحفوظ، كما تقدم، لانفراد الرب، جل وعلا، بذلك المنصب الجليل فهو من أظهر أدلة ربوبيته فهو الرب المدبر للأعيان الظاهرة: إيجادا وإفناء، زيادة ونقصانا، وهو الرب المدبر للأحوال الباطنة هداية أو إضلالا، فليس من ولي مرشد إلى حق على سبيل الانقياد إلا هو، وإن كان للرسل من الإرشاد البياني نصيب فتلك وظيفتهم الرئيسة.

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا:

فذلك، أيضا، من استحضار تلك الصورة العجيبة في معرض تقرير عناية الرب، جل وعلا، بهم، فجاء الفعل مضارعا ليتسق مع ما تقدم من الأفعال المضارعة التي سيقت كلها لهذا الغرض، والطباق بالإيجاب بين: "أيقاظا" و: "رقود": يزيد المعنى تقريرا، وكذلك جاء فعل التقليب مضارعا مئنة من التجدد والاستمرار فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بأبدانهم لئلا تفسد بالمكث على حال واحدة، وذلك ما قد أثبتته العادة والتجربة، فضلا عن العلم الحديث فالإنسان الذي يمكث على حال واحدة، ولو كانت مريحة، يصاب بما يعرف بـ: "قرحة الفراش"، نتيجة تجلط الأوعية الدموية السطحية التي تماس الموضع الذي يتكئ عليه، وهي قرحة شديدة عسيرة العلاج، كما يقول الأطباء، إلا أن يشاء الرب، جل وعلا، شفاءها، فكان تقليبهم على هذا النحو طوال هذه المدة من كمال عناية الرب، جل وعلا، بهم، و: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ: فتلك، أيضا، من الصور العجيبة في هذه الآية، فناسب أن يعمل اسم الفاعل نائبا عن مضارعه، مع أنه لا يعمل إذا جرد من "أل" كما في هذا الموضع إلا في الحاضر أو المستقبل، وتلك صورة انقضت، ولكنها، كما تقدم، صورة عجيبة تستحق الاستحضار بالباصرة والتدبر بالبصيرة.

وعلى ما اطرد من خطاب غير المعين لعموم العبرة في القصة: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا: ففي الاطلاع نوع تكلف دلت عليه زيادة مبنى الفعل: "طلع" بالتضعيف، فاطلع من افتعل، ومن معانيه الرئيسة: التكلف فذلك أدعى إلى النظر والتدبير، وفيه نوع استعارة، أيضا، فالاطلاع يدل على رقي مكان عال والنظر منه إلى ما دونه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك معنى محسوس استعير للمعنى المعقول باستحضار صورتهم التي تثير رعب الناظر لكون الكهوف عادة ملجأ قطاع الطرق، فاجتماعهم على هذا النحو مظنة الريبة، وهي، هنا، أيضا، من أدلة عنايته، عز وجل، بهم، فلو اطلع عليهم أحد ما تجرأ على الدخول عليهم فضلا عن إلحاق الأذى بهم، وذيلت الاية باستعارة أخرى، جريا على ما اطرد في هذا السياق الغني بهذا الفن من فنون البيان، فالامتلاء ينصرف ابتداء إلى المحسوسات كالأكواب والأقداح، فاستعيرت تلك الصورة لوعاء القلب، فهو وعاء معنوي قد ملئ رعبا، فذلك، أيضا، معنى، فاستعير امتلاء المحسوس بالمحسوس لامتلاء المعقول بالمعقول.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير