تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والاستواء مادة كلية تدل على العلو والكمال والاعتدال، وهي تنقسم من جهة المعنى، فتتعدى بـ: "على" فتفيد العلو، كما في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فذلك من علو الذات والصفات، فاستوى بذاته القدسية بأعظم أوصافه: "الرحمن"، فهو على وزن فعلان وهي مادة تدل على المبالغة والتمكن من الوصف، على العرش: أعظم مخلوقاته التي نعلمها فإليها منتهى علمنا بهذا العالم المخلوق، وتتعدى بـ: "إلى"، كما في هذه الآية فتفيد القصد، فالمعنى: ثم قصد إلى السماء، وقد ترد لازمة فلا تتعدى بواسطة، فتفيد المعنى الكلي الجامع: معنى الاعتدال والاستقامة، وهو، إما أن يكون معقولا، كقولك: استوى أدب فلان إذا اكتمل، أو معقولا، كقولك: استوى الثمر، فدل على نضجه، ولا زال هذا الاستعمال معروفا في لهجات العرب الدارجة في زماننا، فاستواء الثمر: نضجه وصيرورته صالحا للتناول، ويقال: استوت خلقة فلان، أي اكتملت ببلوغه ونمو بدنه نموا ظاهرا، وقد اجتمع المعنيان، كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فقد اعتنى الرب، جل وعلا، بكليمه، عليه السلام، فسوى خلقه المعقول، فهو من أشد الناس في دين الله، عز وجل، وخلقه، فهو من أكمل الناس خلقة، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر , ثوبي حجر , حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال: فذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} "، فبرأه الله، عز وجل، مما قالوا في حقه، فالأنبياء علهم السلام منزهون عن الأخلاق الردية التي تخرم المروءة من بخل وجبن وشره، ومنزهون، أيضا، عن قبح الخلقة ودمامتها، وعن كل مرض منفر من جذام وبرص ونحوه، ولذلك رد من رد من أهل العلم ما جاء في بعض كتب التفسير من وصف مرض أيوب عليه السلام، فهو مرض منفر، قد زهد الناس في رؤيته فضلا عن مجالسته، وذلك مما يعارض ما يقتضيه منصب النبوة من الاشتهار والظهور، فيناسب ذلك كمال الصفات الخَلْقية الظاهرة والخُلُقية الباطنة، ليحصل بذلك تمام الألفة، فذلك أول منازل الدعوة إلى الحق، فشخص الداعي عامل رئيس في قبول الدعوة أو ردها، وما جبل عليه من الشمائل، دليل ظاهر من أدله صدقه أو كذبه، فللأنبياء، عليهم السلام، من أوصاف الكمال، ظاهرا وباطنا، خَلْقا وخُلُقا، ما لا يشتبه مع أوصاف غيرهم من المتنبئين الكذابين، أو عامة الناس، ولو كانوا صادقين، فمنزلة النبوة منزلة سامية لا تقبل الشركة من آحاد البشر، وإن علا قدرهم، إذ ليس للكسب فيها مجال، بل هي محض اصطفاء وهبة يقسمها الرب، جل وعلا، لمن شاء، فـ: (قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ)، فالرحمة هنا هي: النبوة، فهي من قبيل الرحمة في قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، فنكرت تعظيما، إذ لا رحمة بالبشر أعظم من رحمة النبوة، والشاهد أن الاستواء هنا لم يحتج إلى التعدي بغيره، فقد جاء على بابه، وهو، عند التأمل وإعمال النظر، مئنة من كمال عنايته، جل وعلا، برسله، فتلك عناية خاصة بأن سواهم على أكمل الخلائق والأخلاق،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير