تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فضلا عن ورود مادة الخلق المتعدية في نحو قوله تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فتلك عناية كونة عامة بسائر الخلائق، فالعموم محفوظ لا يتصور تخصيصه، فليس ثم مخلوق إلا وقد سوى الرب، جل وعلا، خلقته، وهداه بإلهامه الكوني إلى ما يحفظ وجوده العيني، فألهم النبت امتصاص الماء والضوء وسوى خلقته فأوجد فيه صبغات التمثيل الغذائي، فيمتص ما يحتاجه من ماء وأملاح وضوء ليتم تمثيله الغذائي بواسطة تلك الصبغيات، وألهم آكل النبت من الحيوان ما به قوام بدنه، وألهم آكل اللحم ما يلائم طبعه، وألهم الإنسان إلهاما زائدا، فهو يشترك مع الحيوان في استمداد مادة صلاح بدنه مما حوله من الأغذية المحسوسة، ولكنه يزيد عليه في هذا الباب: عقلا يميز به الطيب من الخبيث، فينتقي الأول ويجتنب الثاني، فتلك سمة أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، فالأمر هنا للإباحة المقرونة بالامتنان بطيب الغذاء، فذلك، كما تقدم، من أدلة العناية العامة، وإن توجه الخطاب إلى المؤمنين، فهو من قبيل خطاب المواجهة، فيدخل فيه غيرهم تبعا، لقرينة عموم خطاب التشريع، إلا ما دل الدليل على خصوصه بعين أو جنس أو وصف، فمن تناول الخبيث فقد أبطل القدر الفارق بينه وبين الحيوان الذي لا يحترز من مباشرة الخبائث، فيأكل الميتة والدم، وليس عليه في ذلك لوم، فلا عقل له يناط به تكليف، فذلك مما كرم الله، عز وجل، به بني آدم دون سائر الخلائق، فمن فرط في هذه المكرمة فلسان حاله إبطال آدميته والاقتصار على وصف الحيوان الغرائزي، في أكله وشربه ونكاحه ...... إلخ، وتلك حال كثير من البشر ممن انتكست فطرهم لتنكبهم طريق النبوات الهادي إلى سواء السبيل، فتلك الزيادة الأشرف قدرا، التي اختص بها الإنسان، وهي الهداية الشرعية: دلالة على جهة العموم، ثم توفيقا على جهة الخصوص، فذلك، أيضا، قدر زائد اختص به أتباع الأنبياء، عليهم السلام، فهو اصطفاء بعد اصطفاء، فاصطفاء بالعقل مناط التكليف، ثم اصطفاء بموافقة العقل للوحي، فيلتئم الشقان: شق الإلقاء، فهو صحيح، فهو جل وعلا: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) وشق التلقي، فهو عقل صريح، فكل ذلك من صور التسوية والهداية، فكلاهما من المتعدي، فالاستواء مادة تدل على اللزوم، والتسوية مادة تدل على التعدي، فالرب، جل وعلا، هو المسوِّي، على جهة الإخبار بوصف الفعل لا التسمية، والخلق عموما والإنسان خصوصا هو المسوَّى على أكمل خلقة، فالعموم، كما تقدم، محفوظ، لتمام إحاطته، جل وعلا، بكل شيء، خلقا بقدرته وتدبيرا بحكمته، فالقدرة والحكمة، هما أخص أوصاف الربوبية، فبهما تكون الهيمنة التامة للرب، جل وعلا، على الأبدان: تكوينا، وعلى الأرواح: تشريعا، فيدبر أمر البدن بكلماته الكونية التي يخلق بها الطيبات المطعومة، ويدبر أمر الروح بكلماته الشرعية التي ينزل بها الروح الأمين على قلوب الرسل عليهم السلام، فهي أشرف أجناس الطيبات المعقولة التي يحصل بمباشرة الألباب والأفئدة لها صلاح الحال والمآل.

فالشاهد أن الاستواء هنا، وهو مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، على الفعل، فيقصد إلى ما شاء من خلقه بما شاء من وجوه التصرف، فبكلماته الكونيات تصرف الأمور والقلوب، فالاستواء هنا من وصفه اللازم، فهو، تحديدا، من وصف فعله اللازم، ثم جاء وصف فعله المتعدي بتسوية السماوات، فـ: (سَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ)، فذلك، أيضا، مئنة من كمال قدرته على إيجاد الكائنات على أكمل الهيئات، وكمال تدبيره لأمرها فذلك من وجوه عنايته، فـ: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فيمسكهن بكلماته الكونيات، فلا تزولا، فلا ممسك لهن سواه، فهو الخالق لهن، والخالق المسوي، أعلم الناس، بداهة بما خلق وسوى، ولله المثل الأعلى، ولذلك ذيلت الآية بإثبات

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير