تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والنبوة ذريعة إلى إتقان الأصول العلمية والعملية، فذلك، كما تقدم من معاني الحكمة، فإن القلب قد يدرك أمور التوحيد جملة، فلا يستقل عن بيان النبوات ففيها تفصيل ما أجملته الفطرة الأولى، فالنبوات، كما تقدم في أكثر من موضع، تعالج الفطرة: تبيينا لما أجملته، وتقويما لما اعوج منها بطروء الشرك فهو العارض، فالأصل في المكلف الإيمان، فـ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، والجوارح تفتقر إلى أعمال تزكيها، ولا يكون ذلك على وجه التعيين إلا من طريق النبوات، فالعقل قد يدرك حسن وقبح أعمال، فيفعل الأولى ويترك الثانية، ولكن المعنى الشرعي الذي يقر تحسينه وتقبيحه، أو ينقضه، لا يتلقى إلا من طريق النبوة، ففيها النص على حكم العمل وصفته وجزائه في الدنيا والآخرة ...... إلخ من المجملات التي لا يستقل العقل بإدراكها لا سيما في باب العبادات، فالأصل فيها التوقيف، والقياس فيها نادر، بل قد جرى على ألسنة الفقهاء امتناع القياس في العبادات، فعللها غير معقولة، وإن كان لها علة في نفس الأمر، ولكنها غير مدركة بالعقل، ليقيس عليها غيرها، فيدرك الحكمة العامة من تشريعها، ولكنه لا يدرك الحكمة الخاصة أو العلة التي من أجلها قد شرعت، فذلك مما ابتلي بالإيمان والتسليم به دون خوض فيه، فلا مطمع في درك ما قد استأثر الرب، جل وعلا، بعلمه سواء أكان ذلك في الإلهيات العلمية أم في الشرعيات العملية.

وأما باب المعاملات فهو أوسع، إذ العقل يدرك العلة في إباحتها أو تحريمها، فيقيس عليها المعاملات الحادثة في كل عصر ومصر، فذلك، أيضا، مئنة من إتقان الشرائع التي نزلت على الأنبياء، عليهم السلام، لا سيما الشريعة الخاتمة فهي أكملها وأوسعها، فهي الخاتمة فلا رسالة بعدها، وهي العامة للثقلين، فتشمل عموم أحوالهم إما بالنص، ففي النصوص جملة عظيمة من أحكام المكلفين، وإما بالقياس لما يجد من نوازل لا سيما في باب المعاملات، كما تقدم، وكل ذلك مئنة مما تقدم من عظم عناية الرب، جل وعلا، بعباده أن أرسل رسله، وأنزل على قلوبهم الحكمة ليهتدي البشر بها، فهي سبيل النجاة، فبها تصح علوم الباطن وأقوال وأعمال الظاهر.

ثم جاء التذييل بالعلة من إرسال الرسل عليهم السلام فـ: فَاتَّقُوا اللَّهَ: بتصديق الخبر وامتثال الحكم، وَأَطِيعُونِ: فتلك الطريق إلى الرب، جل وعلا، هجرة إليه وإلى رسله عليهم السلام بتصديقهم وتحكيمهم في كل ما شجر من نزاع، ثم جاء التذييل بعلة ذلك: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ: فصدرت بالتوكيد تنويها بشأنها، فعلة الطاعة لمن أرسله أنه الرب الخالق المدبر على جهة القصر توكيدا بتعريف الجزأين فضلا عن الفصل بضمير الغائب والإطناب في بيان عموم ربوبيته، فهو رب الرسل ورب من أرسلوا إليهم، فهو الرب، على جهة العموم، لكل الخلائق فعليها تحمل الإضافة في: "ربكم"، وهو الرب على جهة الخصوص لأنبيائه وسائر أوليائه، فعليها تحمل الإضافة في: "ربي"، فاختلف المعنى باختلاف جهة الإضافة، فليست ربوبيته لمن اصطفاهم كربوبيته لمن خلقهم، فليس كل خلقه مما تمدح حاله، بل: (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فاللفظ واحد في مبناه، ولكن لما اختلفت جهة التقييد اختلف المعنى، فربى عباده بالنعم الشرعية فتلك تربيته لأوليائه، وهي أظهر صور العناية فليس أعظم من الإيمان عطية، وربى سائر خلقه بالنعم الكونية، فهي أيضا من صور العناية الربانية بسائر الأجناس والأنواع، فعنايته، كما تقدم مرارا، شرعية خاصة وكونية عامة، وأعيد اللازم من العبودية الخاصة لازم الربوبية توكيدا، فقد سبق ذكرها ابتداء: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)، ثم ثني بذكرها فذلك من التوكيد بالتكرار.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 07 - 2010, 12:11 م]ـ

وعودة إلى سورة التوبة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير