فيها بأوصافه العلية، وربوبيته إيجادا وتدبيرا، وألوهيته حقا واجبا على عباده.
ثم جاء التذييل بجملة من أوصاف الربوبية ووظائفها التي انفرد بها الرب، جل وعلا، فذلك، أيضا، من التوكيد على وجوب إفراده، جل وعلا، بمنصب الألوهية، فينزل منزلة التذييل بالعلة عقيب المعلول، فكأن المخاطب قد تولد في ذهنه السؤال عن علة استحقاقه، جل وعلا، هذا المنصب الجليل، الذي لا يقبل الشراكة بداهة، فجاء التذييل بالجواب بذكر جملة من أوصاف الربوبية: ملكا للسماوات والأرض، وعلما بالساعة، وبعثا للأجساد فإليه، وحده، على جهة القصر يرجع العباد فيجزيهم بما قدمت أيديهم في دار الابتلاء، فالبعث ضرورة عقلية وشرعية، وإنكاره سوء ظن عظيم بالرب الجليل تبارك وتعالى، ففيه من نسبة العجز إليه، جل وعلا، فلا يقدر على إعادة الأجساد وحشرها وهو الذي خلقها ابتداء، فإعادتها أهون عليه، فـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، يقول ابن القيم، رحمه الله، في "إعلام الموقعين":
"يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها، وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات وأدلها وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون)، فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية". اهـ
فذلك من قياس الأولى الضروري عقلا قبل ثبوته نقلا، وفي إنكار البعث: نسبة السفه إليه، جل وعلا، فيسوي بين الظالم والمظلوم في دار الابتلاء، إذ لا دار ثانية بعد هذه الدار تتمايز فيها الأحكام تبعا لتمايزها في الأفعال في الدار الأولى، وكم رأينا ولا زلنا نرى من صور الظلم والبغي على الضعفاء ما لم يقتص لأصحاب الحقوق فيه بعد، فلما يأت الجزاء فهو آت لا محالة في الدنيا أو في الآخرة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فإن فاته في الدنيا فلن يفوته في الآخرة، فأي سفه وظلم يضاد معاني الحكمة، أعظم من التسوية بين ذينك الفريقين؟!، ففي إنكار البعث مما تقدم من وصف السوء: عجزا وجهلا وسفها وظلما ما تنزه عنه، تبارك وتعالى، ضرورة، ولذلك جاء الرد على هذه الشبهة بإثبات أوصاف القدرة في مقابل العجز، والعلم في مقابل الجهل، والحكمة في مقابل السفه.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "الفوائد":
"وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته فإن شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع:
أحدها: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض علي وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص:
الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء هكذا أبدا كلما مات جيل خلفه جيل آخر فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك فجاءت براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول:
أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال: من يحي العظام وهي رميم، قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. وقال: وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم. وقال: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم.
والثاني: تقرير كمال قدرته كقوله: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. وقوله: بلي قادرين على أن نسوي بنانه. وقوله: ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير. ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم.
الثالث: كمال حكمته كقوله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. وقوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. وقوله: أيحسب الإنسان أن يترك سدى. وقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق. وقوله: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع وأن كمال الرب تعالي وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص". اهـ
فأي سوء ظن بالله، عز وجل، أعظم من إنكار البعث والنشور وما يلي ذلك من الجزاء والحساب.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "زاد المعاد":
"ومَن ظن أنه لن يجمع عبيدَه بعد موتِهم للثوابِ والعِقاب فى دار يُجازى المحسنَ فيها بإحسانه، والمسىءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ". اهـ
وليس ذكر هذه الأوصاف بمخصص لعموم أوصاف ربوبيته، جل وعلا، فالسياق غير حاصر، وإنما نبه بها في معرض التمثيل لعموم معنى الربوبية، فذكر الخاص في معرض التمثيل لا يخصص العموم، فأوصاف ربوبيته، جل وعلا، أعظم قدرا من أن تدرك، وأكثر عددا من أن تحصى. فـ: (َتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
والله أعلى وأعلم.
¥