تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 08 - 2010, 03:49 م]ـ

ومن صدر سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ):

فذلك من إنزاله، جل وعلا، الشرعي، وهو من أعظم صور الحكمة الإلهية بإنزال الشرائع التي تستقيم بها أحوال البشر، فهو، أيضا، من أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، فالرسالة أعظم منة إلهية، وآثارها الباقية في الأرض الآن: الكتاب العزيز، آخر وحي نازل برسم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فهو الكتاب الذي أنزله الرب، جل وعلا، في ليلة، نكرت تعظيما، ووصفت بالبركة فذلك من تتميم وصف الثناء، فأنزل أعظم كتاب في أعظم ليلة، فمن عنده، جل وعلا، ينزل الأمر الكوني، فـ: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، فهو مئنة من كمال قدرته، ومن عنده، جل وعلا، ينزل الأمر الشرعي، فـ: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، فمادة الإنزال: مئنة من وصف فعلي ثابت لله، عز وجل، على جهة التعدي بهمزة: "أنزل"، وهو يعم: الإنزال الكوني، والإنزال الشرعي، فتلك أفراد هذه المادة الكلية، فثبت، له، جل وعلا، كلا النوعين بقيد التكوين وفيه من دلالة الإيجاد ما فيه، فلا تكون ذرة في هذا الكون خلقا، ولا تكون حركة بعد سكون، أو سكون بعد حركة، إلا بأمر كوني نافذ، ينزل من لدنه، فتتلقاه الملائكة فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، فالملائكة من جملة الجند الرباني الغيبي، فهي أسباب مغيبة تؤثر بإذن الرب، جل وعلا، في إيقاع وتسيير الأسباب المشهودة، فقد أقيم هذا الكون على جملة من السنن الكوني النافذ، الذي يدل على عظم قدرة وحكمة الرب، جل وعلا، فمنه الغيبي الذي ابتلينا بالإيمان به فذلك من التوحيد، ومنه المشهود الذي ابتلينا بمباشرته، فذلك من التشريع، فمن قدح في السبب الغيبي إنكارا فقد قدح في إيمانه بالغيب، ومن قدح في السبب المشهود إهمالا فقد قدح في امتثاله الشرع، ولا تكون ديانة إلا بتوحيد وشرع، فالأول من العلم، والثاني من العمل، والإيمان، كما قرر المحققون من أهل السنة، علم يباشر القلب، وعمل تباشره الجوارح، فالعلم كامن في القلب تصديقا بالغيب من إلهيات وسمعيات ونبوات، والعمل ظاهر في الأقوال والأعمال تصديقا آخر بامتثال الجوارح أمر الشرع ونهيه.

والشاهد أن إنزال الكتاب: حدث عظيم ونعمة جليلة، فناسب ذلك: نسبته إلى ضمير الفاعلين، فالتعظيم اللفظي مئنة من التعظيم المعنوي للمنزِل، جل وعلا، وللمنزَل من الوحي الجامع لأصول العلوم النافعة والأعمال الصالحة.

وعلة هذا الإنزال، كما ذكر أبو السعود، رحمه الله، أنه إنذار من الرب الجليل، تبارك وتعالى، فجاء التذييل: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، والإنذار مئنة من الجلال، فلا ينذر ويتوعد على هذا الوجه إلا من يقدر على إيقاع ما يتوعد غيرَه به، فحسن معه، أيضا، الإتيان بصيغة الجمع: "إنا"، و: "كنا"، و: "منذرين"، فذلك من وصف الفعل الرباني، فالاسم مئنة من وصف الفعل: وصف الإنذار، فليس اسما مطلقا من الأسماء الحسنى، فكأن السياق قد دل اقتضاء على سؤال مقدر في ذهن المخاطب: وما علة هذا الإنزال؟، فجاء الجواب على جهة الفصل بلا وصل بعاطف لشبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، فـ: "إنا كنا منذرين"، فضلا عن تصدير الكلام بـ: "إن"، فهو، مئنة من التعليل، كما قرر أهل الأصول في مبحث العلة في باب القياس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير