تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا أصلح الوحي الفرد في نفسه، أمن جانبه فصار الرقيب الشرعي عليه أعظم أثرا من الرقيب البشري بقانون قاصر يتفنن أصحاب السلطان في انتهاكه برسم الطغيان الديني تارة، وهو أعظم طغيان، وبرسم الطغيان السياسي، كحال ملوك وأمراء الجور في كل عصر ومصر، وبرسم النفوذ بمال أو جاه، ولا تزدهر تلك الصور إلا في أعصار وأمصار تخفت فيها أضواء النبوات، فظلام الجهل بالكفر والظلم فيها قد عم، فإذا أشرقت شمس الرسالة يوما، وذلك كائن لا محالة، فذلك موعود الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فـ: (لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، إذا أشرقت بعد حصار أحزاب الظلام من كفر ونفاق وظلم، بددت بأشعتها تلك الظلمات فـ: (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، و: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). فالنبوة شريفة القدر لا يحمل خبرها ويجري أحكامها على الجماعات إلا شريف القدر، سواء أكان ذا ولاية خاصة فيجري حكم الشريعة على نفسه وأهله، فهو من المقسطين، فـ: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، أم كان ذا ولاية عامة، فيجريها على عموم العباد والبلاد، فتستقيم أمور الأديان والأبدان، ويأمن المخالف قبل الموافق من جور أديان الأرض، فدين السماء بأخباره وأحكامه أمان لأهل الأرض جميعا، فإذا رفع خربت الدنيا، بإذن ربها الكوني النافذ، فلا: "تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله"، والتاريخ خير شاهد أنه ليس ثم ملك راسخ إلا في ظل النبوات، فملك سليمان عليه السلام: ملك نبي، وخلافة الراشدين خلافة نبوة، وخلافة المتأخرين كعمر بن عبد العزيز ما عظم قدرها وخلد ذكرها إلا بسلوك منهاج النبوة. وفي المقابل: ما ذلت أمة الإسلام، إلا بتوسيد الأمر إلى غير أهله، فنطق الرويبضة، فلا ينطقون بكلام النبوات بداهة، فليس ثم في كلامهم إلا ما استعاروه زورا من كلام بقية الأمم، فليتهم أقاموه، فلم يقيموا دينهم ولا دنيا غيرهم!، واطراد الأمر نهوضا، برسم العزة، بتصديق خبر النبوات وامتثال أمرها، وقعودا، في المقابل، برسم الذلة، بتكذيب خبرها، مقالا أو حالا، ومخالفة أمرها صراحة، ذلك الاطراد خير شاهد على جريان السنة الكونية النافذة فـ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا: فذلك عموم عقيب خصوص النهي عن صور من الإفساد بعينها، فأطنب بالعموم عقيب الخصوص تقريرا للمعنى، فليس ثم إفساد إلا بمخالفة أمر النبوات، فيفسد المخالف ما صلح ابتداء أو أصلحه غيره، وذلك أقبح في العقول الصريحة، فالإفساد عقيب الإصلاح أقبح في التصور من الإفساد ابتداء وإن كان كلاهما قبيحا، فنهاهم عن الإفساد فذلك من جملة وظائف الرسل فلا يأمرون إلا بالإصلاح الديني والدنيوي، ولا ينهون إلا عن ضده، فالرسالات، كما تقدم، معدن صلاح الدين والدنيا، فبها تستقيم أمور الأفراد والجماعات، ثم جاء التعقيب في معرض الترغيب فـ: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ: وذلك من التفضيل المنزوع الدلالة فلا خير في غير منهاج النبوة، وإن ظنه السالك خيرا، فذلك لقلة علمه وفساد إرادته، فتعرض له شبهة تفسد معلومه، أو شهوة تفسد مراده فيسعى في تحصيلها لظنه النفع فيها، ولو كان فيها عين الضرر الذي يناله قبل غيره، ولكنه لفساد تصوره قدم المنفعة العاجلة العارضة على المنفعة الآجلة الباقية، فذلكم، على جهة الإشارة إلى البعيد مئنة من علو شأنه، فلا شأن أعظم من شأن الوحي، فهو، كما تقدم مرارا، أعظم نعم الرب، جل وعلا، على عبيده.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير