تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فذلكم خير لكم: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: فذلك من الإلهاب للهمم فوصف الإيمان وصف قد أجمع العقلاء من الأمم على حسنه، فالنفوس تدعيه، ولو كانت واقعة في ضده، فكل يزعم الإيمان، ولو كان رأسا في الكفر، بل لا ينفك أي بشر عن إيمان، ولو بدين وضعي أو مذهب أرضي، فتجد فلانا أو فلانا من المفكرين!، يؤمن بالعلمانية أو الشيوعية .......... إلخ بديلا عن الدين السماوي المنزل، فلا تنفك النفس عن عبودية تقتضي الإيمان بأي معبود، ولو كان الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَ)، بل لو كان الشيطان كما قد وقع في زماننا!.

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا: فتلك حال رءوس الضلالة في كل زمان فلا تجد إلا الصد عن سبيل الله، عز وجل، فقد صُدُّوا ابتداء، بالقدر الكوني النافذ، فليسوا أهلا لتلك الكرامة فاقتضت الحكمة الربانية البالغة حجبها عنهم، ثم صاروا أئمة في هذا الشأن فصدوا غيرهم بالترغيب والترهيب، بل وبالتعذيب والتقتيل، على مرأى ومسمع من أدعياء الحريات المدنية المزعومة، فيوعدون من سلك سبيلا معقولا أو محسوسا، فمن سار على طريق الهداية صدوه، ومن سار على طريق التجارة سرقوه، فهم قطاع طرق الدين والدنيا، ففتنوا المؤمنين والمؤمنات في أديانهم وأبدانهم، ثم ذكرهم شعيب عليه السلام بعناية الرب، جل وعلا، بهم، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ: فكانوا قليلا فصيرهم كثيرا، وكانوا فقراء فصيرهم أغنياء، فلو كانوا أهل نظر، لحمدوا ذلك وشكروه باستعماله في مراضي من تفضل به ابتداء، فعمروا المعاد بآثار تلك الصالحات، واستبقوا تلك النعم في هذه الدار بشكرها، فبه تدوم النعم، ولكنهم اغتروا بها، فلسان حالهم لسان مقال عاد: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، فالكفر ملة واحدة، فجرت عليهم سنة الاستدراج وهي أول خطوة في طريق الاستئصال، ثم انتقل من الترغيب بالتذكير بآثار نعم الرب الكريم إلى الترهيب، بالتذكير بما حل بالمفسدين فـ: انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: على جهة الأمر إرشادا فانظروا نظر الفكر، لقرينة تعلقه بالكيف، فالنظر في الأحوال يكون بالعقول، والنظر إلى الأعيان يكون بالأبصار، ولا يبعد أن يكون النظر بالبصر لو كان ثم ديار قريبة لمن كذب بالرسل، عليهم السلام، فيجتمع في حقهم نظر الفكر المعقول ونظر العين المحسوس، فاستعمل شعيب عليه السلام قياس الطرد القرآني فانظروا في عاقبتهم فإن فعلتم مثل أفعالهم نالكم ما نالهم من العذاب، واستعمل بدلالة المفهوم: قياس العكس فإن آمنتم فلم تسلكوا سبيلهم في الكفر تكذيبا بالخبر وتولٍ عن امتثال الأمر والنهي بتأويله في عالم الشهادة فعلا وتركا، فإن آمنتم نجوتم فلم تصر عاقبتكم كعاقبتهم، وذلك، أيضا، يصب في قناة ما تقدم من سلوك التنزيل مسالك عقلية دقيقة بعبارات بسيطة خالية من تكلف أهل النظر والفلسفة.

ثم دعاهم إلى المفاصلة: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ: فانقسم الناس بدعوته إلى فريقين: مؤمن وكافر يدخل في حده المنافق فمآله إلى الكفر بل أشد، وفي زمان كزمان شعيب لا يظهر النفاق، فأتباعه من المستضعفين وليس له دولة وسيف يحسم مادة الشر بأمر الشرع، فلم يؤمر بقتال، وتلك سنة الأنبياء عليهم السلام في أزمنة الاستضعاف، فيعقبه التمكين إما بإهلاك المكذبين بسنة عامة، كما قد وقع لعاد وثمود، وإما بقيام دولة النبوة فيظهر النفاق لزوما فتارة يستخفي في أزمنة القوة، فيلتحق بمعسكر المؤمنين في أحكام الدنيا دون الآخرة ما لم تظهر أمارة بينة على نفاقه الباطن، وتارة يستعلن فيلتحق بمعسكر الكفار في أحكام الدنيا والآخرة، كحال كثير من زنادقة العصر، فاصبروا: فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين فحصل التضاد في معناه بتضاد جهاته، فتعلقه بالمؤمنين غير تعلقه بالكافرين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير