تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لفظها، ولعل الإتيان بالجمع في معرض بيان خلق تلك لآلهة آكد في بيان عجزها وافتقارها، فذلك وصفها في نفسها فحصل بالإثبات بيان افتقارها إلى من يوجدها، فليس ذلك وصف الرب الخالق والإله المعبود بداهة، وحصل بالجناس بين الفعل المبني لما سمي فاعله، والفعل الذي لم يسم فاعله للعلم به بداهة، فالله، جل وعلا، خالق، كل شيء، حصل بهذا الجناس في سياق نفي: (لَا يَخْلُقُ شَيْئًا)، مشفوع بسياق إثبات: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، مع اتحاد المادة اللفظية، لاختلاف المتعلق، حصل به نوع مقابلة تزيد المعنى بيانا وتقريرا.

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ: فنفى في الآية السابقة: ربوبية الإيجاد، ثم شفع ذلك بنفي ربوبية العناية، فلا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ولا يقدرون على نصرتهم، فضلا عن نصرة أنفسهم، فهم أموات غير أحياء، فـ: (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، فإذا انتفت نصرتهم لأنفسهم ابتداء، انتفت بدلالة قياس الأولى: نصرتهم لغيرهم، فذلك من قياس التنزيل الصريح.

ثم أطنب في بيان عجزهم آلاتهم الإدراكية: فـ:

إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ: فحال الداعي أكمل من حال المدعو، فالأخير يفتقر إلى دعاء من يدعوه، إن كان مكلفا، فإن كان حجرا أو شجرا، فدعاء الأول له على كلا الوجهين: عبث، فلن يسمع دعاءه إن كان عبادة ولن ينتفع به إن كان له بصلاح وهداية، فهو غير مكلف ابتداء.

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: فهم عباد أمثالكم يجري عليهم ما يجري عليكم من سنن الكون، فلا وجه صحيح للغلو فيهم برفعهم فوق درجاتهم، وإضفاء وصف الألوهية على ذواتهم الأرضية، فقياس العقل قاض ببطلان هذا الدعاء، فهو طلب من أدنى إلى أعلى، والطلب هنا من مساو إلى مساويه، بل هو، من وجه، أكمل منه، فقد مات المعظم الذي تتعلق به القلوب، فانقطع عمله وزال تكليفه وصار في حاجة إلى من يدعو له لا من يدعوه، فلا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا، فتلك من أخص وظائف الربوبية، فحسن التعقيب باستفهام حصل به الإطناب في بيان وجوه عجزه المحسوس: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ: فليس لهم من آلات الفعل والإدراك شيء، فهم إما ميت لا تأثير له في أحداث العالم، وإن زعم له ذلك من زعم من غلاة الملل والنحل، وإما جماد، فلا حياة فيه ابتداء، والعقل قاض بقياسه الصحيح أن الإله لا يكون إلا سميعا بصيرا عليما فعالا لما يريد بإرادة كونية نافذة، وصفات فاعلة من خلق ورزق، فكلماته الكونية النافذة هي أثرها في هذا العالم، فليس ثم حركة في هذا الكون، كما تقدم، إلا وهي أثر لكلمة من كلمات الرب، جل وعلا، فله في كل شأن تقدير نافذ وحكم شرعي لازم، فـ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، ثم ذيل بأمر الإعجاز والتحدي مجددا: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ).

وفي مقابل أولئك الأولياء العاجزين:

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ: فحصل القصر الحقيقي بتعريف الجزأين فله الولاية الكونية بكلماته النافذة، وله الولاية الشرعية برسالاته المنزلة، وهو يتولى الصالحين، فالمضارعة مئنة من التجدد والحدوث، فيحدث من أفراد ولايته الخاصة لعباده المؤمنين نصرا وتثبيتا، ما يدل على صدق موعوده: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، ولو تأخر النصر استكمالا لأسبابه وتأويلا لسنة التدرج في نهضة الأمم بعد كبوتها، فلا تنهض الأمم فجأة، كما لا تكبوا فجأة.

وحصل التعريض بقصر الولاية الخاصة على الصالحين، فمفهومها نفي وصف الصلاح عمن تولى غيره فعلق به قلبه رغبة ورهبة.

ثم حصل الإطناب بتكرار أوصاف عجز آلهتم في مقابل كمال تولي الرب القدير السميع البصير العليم الحكيم لأوليائه الصالحين:

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير