تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأرض، ولو كانت على غير منهاج النبوة، فالتدافع بين بني البشر قدر محتوم، فلا مناص من وقوع القتال المحموم، بالحجج والبراهين إن كان الميدان عقليا، وبالسيف والسنان إن كان الميدان بدنيا، فقتال الأبدان لازم قتال العقول، فما حركات البدن ضربا وتقتيلا إلا أثر حركات العقل وإراداته لحجته تقريرا ولحجة خصمه تفنيدا، ولا يوجد بشر أو حتى حيوان يخوض قتالا بلا هدف، إلا من طمس الله، عز وجل، على بصره وبصيرته، فلا يدري لم يقاتل، فهو كآلة الحرب والقتل تفتك بما أودع فيها من القوى دون أن يكون لها إرادة في ذلك، فهي جماد عديم الإرادة، فتربية النفوس على طاعة باريها، عز وجل، بمدافعة أسباب الكون بأسباب الشرع، مظنة النصر في الدنيا والفوز في الآخرة، وتربيتها على الطاعة العمياء لقادة لهم المغنم وعلى جندهم المغرم، فلا يبغون إلا تحقيق المصلحة الخاصة، ولو كانت على خلاف المصلحة العامة، فطريقتهم ضد طريقة الوحي الذي يهدر المصلحة الخاصة للفرد تحصيلا للمصلحة العامة للجماعة، فلا ترهن مصاير الأمم حفاظا على عرش ملك جائر وسلطان غاشم، لم ينله على وجه مشروع، ولم يعمل فيه بما أمر به الرب المعبود، فـ: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

وهي أمة متجبرة مع ضرب الذلة عليها، في مفارقة عجيبة، كما تقدم، فالمتجبر لا يصلح معه اللين، بل لا بد من كسر حدته بشرعة جلال تخضعه للرب، جل وعلا، فشريعة التوراة أثر من آثار جلال الرب، جل وعلا، بكلمات حكميات جاءت بالعزائم تربية للهمم، فالدين لا يقوم على أكتاف المترخصين، بل لا بد له من أصحاب عزائم لا تربيها إلا الشدائد سواء أكانت شرعية كشريعة يهود، أم كونية، كسائر النوازل التي يستخرج الرب، جل وعلا، بها، من كمائن الإيمان ما كان محجوبا فلولا كير الشدة ما صقل ولمع، وذلك أعظم ما يتسلى به العبد في شدته، وأعظم ما يهون على المستضعفين من أهل الديانة مصابهم، فقد ظلمهم أهل الكفران، وخذلهم أهل النفاق، وعجز كثير من أهل الإيمان عن نجدتهم، فالمحنة في حقهم منحة، وفي حق غيرهم فتنة ينقسم الناس بها إلى: كفار يتربصون بهم، ومنافقون يتآمرون عليهم، ومؤمنون بقدر إيمانهم تكون حرارة المصاب في قلوبهم فتشتعل بها جذوة الولاء والبراء في الصدور، فهي الباعث على بذل كل سبب مشروع لنجدتهم، فلا يدفع البلاء ولا يرفع إلا ببذل المقدور من دعاء فهو أمضى سلاح، وبذل للأسباب التي جعلها الرب، جل وعلا، وسائل فاعلة بما أودع فيها من القوى المؤثرة، فيبذل السبب فهو سنة الرب، جل وعلا، في كونه، ولا يتعلق القلب به فليس له استقلال بالتأثير، فليس ذلك إلا لرب العبيد، جل وعلا، فلو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولو شاء لرفع البلاء عن كل مبتلى، ولو شاء لشفى صدور قوم مؤمنين بنجاة إخوانهم المستضعفين وهلاك من ظلمهم وخذلهم من الكفار والمنافقين، ولكن حكمته اقتضت وقوع التدافع بين الفريقين فبها تستخرج عبوديات الجهاد حجة وبرهانا، وسيفا وسنانا، ولكل ميدان سلاحه.

فتلك الشريعة التوراتية التي كتب الرب، جل وعلا، كلماتها للكليم عليه السلام، فاصطفاه بأن كلمه ثم كتب له كلامه في الألواح، فجمع له الكلام المسموع والكلام المكتوب، وذلك من العناية الربانية الخاصة بمكان، فـ: "أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده".

وأما الشريعة العيسوية فهي شريعة الجمال فقد جاءت بالتخفيف فنسخت جملة من الآصار الشرعية التي ضربها الله، عز وجل، على بني إسرائيل، من قبيل: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، فعليهم ضرب الله، عز وجل، حكم التحريم تربية بالعقوبة، فالنسخ من الأثقل إلى الأخف من صور النسخ الشرعي فتنسخ شريعة جملة من أحكام شريعة سابقة، فتنسخ النصرانية بأحكامها التي يغلب عليها جانب الرقة والجمال، فـ: (قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير