تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، جملة من أحكام التوراة التي جاءت برسم الجلال، فـ: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، وينسخ الحكم الواحد في الشريعة الواحدة، من الأثقل إلى الأخف جمالا، ومن الأخف إلى الأثقل جلالا، فيحصل باجتماعهما الكمال الذي جاءت به الشريعة الخاتمة، فهي الشريعة التي جمعت جلال شريعة يهود، وجمال شريعة النصارى قبل التبديل، فلم يعد منها الآن إلا جملة من الأخبار التي دخلها التحريف، وإن بقيت منها جملة كثيرة محفوظة تشهد ببطلان مقالة الصلب والتثليث، فلم يأت المسيح عليه السلام إلا بالتوحيد فـ: (لَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فبين بعضه بالنسخ الجزئي لجملة من أحكام التوراة، وجاء بالتوحيد خالصا من كدر الشرك وقذى التثليث، فليس إلا إله واحد بذاته، أحد في صفاته، فلا ند له ولا شبيه، إذ ليس إلا رب واحد خالق بارئ مصور رازق له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فـ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) على جهة القصر بتعريف الجزأين والتوكيد بضمير الفصل، فله الربوبية الخاصة: عناية بالمسيح عليه السلام فأيده بالمعجزات فـ: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي)، وحفظا من أعدائه فـ: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وله الربوبية العامة عناية بالإيجاد والإعداد والإمداد لسائر الكائنات.

ولم تعد نصرانية بولس من جنس نصرانية المسيح، فلا نرى منها الآن إلا التعصب الفكري والتطرف الحركي، ولا نرى تسامحا مع المخالف، فليس ثم إلا إفناء الأبدان وتخريب العقول لمن آمن بالرب المعبود، تبارك وتعالى، فأيد انتسابه إلى المسيح باتباع أولى الناس به: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فـ: "إني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن نبي بيني وبينه"، فأولئك شهداء بصحة الرسالة الخاتمة، فلهم من قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): حظ عظيم، وإن لم يكونوا من أولي العلم بالمعنى المعهود المتبادر إلى الأذهان، فليسوا من أهل الرواية والدراية، بل منهم من أيامه في الديانة معدودة، ولكنها قد ساوت بل فاقت أعمارا مديدة لأناس ورثوا الديانة تقليدا، فما علموا من قدرها ما علمه من دفع ثمنها، فلا يستوي من كد لتحصيل الثمن، ومن قعد فجاءته الديانة هبة بلا ثمن، فزهد فيها، بل باعها بعض أهلها بأبخس ثمن، وتلك من آيات الرب، جل وعلا، فيصطفي من عباده رجالا ونساء قلوبهم على وصف الأسود، وإن كانت أبدانهم ضئيلة المبنى، فقد قام بالصدور من المعاني ما صيرهم أهلا للسيادة، فهم على رسم الصديقية، فـ: "ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه"، وإن جهل من جهل من البشر أعيانهم، فيكفيهم أن الله، عز وجل، بحالهم عليم وعلى قولهم وفعلهم شهيد، فلا توسط عند من رام السيادة لا سيما إن كانت برسم الديانة، فلسان حاله:

ونحن قوم لا توسط عندنا ******* لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا ******* ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير