تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فما نزلت لتتلى ويتبرك بكلماتها، وإن كان ذلك مقصدا شرعيا، ولكنه ليس المقصد الرئيس، وإنما نزلت لتحكم الأرض برسم النبوة والخلافة الراشدة، ولا تكون الخلافة راشدة إلا إذا كانت على منهاج النبوة، والشاهد أن عموم "كل" مظنة الإجمال فجاء البيان عقيبه، فالمكتوب: موعظة، فالموعظة أول ما يطرق القلوب فتنتعش بسريان ماء الحياة في عروقها، وماء حياة القلوب: ماء الإيمان الذي تنشأ به الشجرة الطيبة، فـ: "أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"، فالأصل ثابت راسخ في القلب فهو معقد ولاء وبراء صاحبه، فلا يحب ولا يبغض إلا فيه، فحرارة الإيمان: حرارة فاعلة تولد في القلب لزوما حركة دائبة، فلا ينفك قلب المؤمن عن ولاء لأهل الإيمان، وبراء من أهل الكفران والنفاق، ولا ينفك مع ذلك من عدل ابن رواحة رضي الله عنه: "والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولن يحملني بغضي لكم، ولا حبي له أن أحيف عليكم، فقال يهود خيبر: بهذا قامت السماوات والأرض"، فلسان حاله: (إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، فذلك أمر المعاملة الدينية الباطنة، و: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فذلك أمر المعاملة الدنيوية الظاهرة من بيع وشراء وطب وعلاج ...... إلخ، فالتسامح لا يكون إلا في أمر الدنيا فالمؤمن يبذلها لكل أحد، تأليفا للقلب أو أنفة من قتال خسيس تكون الدنيا غنيمته، وبئست الغنيمة: دنيا لا تبذل صيانة للديانة، فالمال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وليس للكنز والادخار، والشاهد أن الموعظة الإيمانية تحيي القلوب الميتة وتوقظ القلوب النائمة، وتشعل وهج الديانة في القلوب الباردة فتذيب جليد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)، فقد تثاقل كثير من الناس، ومنهم أصحاب دين وفضل، تثاقلوا عن نصرة الدين وأهله من المستضعفين الذين خذلهم القادر والعاجز!، بل ربما سعى بعض أهل الديانة في تخذيل الناس وتخدير المشاعر، فتبرد الهمم الحارة التي تحترق غيظا، وليس المراد إشعال نار تأكل الأخضر واليابس، بل المراد استبقاء جذوة الإيمان مشتعلة في القلب، فلا تفتر فيبرد القلب، ولا تزيد عن الحد فتنقلب إلى الضد نار فتنة مستعرة، فليس ذلك مراد الشرع الذي ألجم النفوس بلجام الأمر والنهي، فلا تصدر إلا عن أمره، ولا تنزجر إلا بنهيه.

والفرع في السماء: فإذا تكلم العبد بكلمة التوحيد عرجت إلى الرب، جل وعلا، في السماء، كما ذكر ذلك البغوي، رحمه الله، فهو العلي الذي استوى على العرش: سقف العالم المخلوق فليس ثم بعده إلا جهة العلو المطلق: وصف الرحمن، فهو العلي بذاته على كل خلقه، فذلك وصفه الذاتي، وهو العلي على عرشه استواء يليق بجلاله، فذلك وصفه الفعلي، فله العلو العام والخاص: الذاتي والفعلي.

وبعد الموعظة العامة: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ: فذلك، كما تقدم، عموم أريد به خصوص الديانة لمكان التنزيل فلا ينزل الوحي إلا بالكلمات الشرعية الحاكمة أخبارا هي مادة صلاح القلوب، وأحكاما هي مادة صلاح الجوارح، فيعمل القلب فيها تصديقا وإرادة، وتعمل الجوارح امتثالا لما قام بالقلب من علوم وإرادات، على ما اطرد مرارا، من التلازم الوثيق بين الباطن العلمي والظاهر العملي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير