تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فحصل بالموعظة: بذر الإيمان في القلب، ثم حصل بالتفصيل الخبري الحكمي نماء تلك البذرة التي يتفاوت نموها بتفاوت التعاهد بسقي العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك تفاوت الإيمان في القلوب حرارة وبرودة، قوة وضعفا، وإن كانت صورة العمل الظاهر واحدة، كما تتفاوت قوة الزرع بتفاوت مهارة الزارع، وإن كان الغرس والسقي في صورته الظاهرة واحدا، فلا يستوي من تعاهد زرعه الإيماني بمادة حياته ولا تكون إلا من مشكاة النبوات، ومن أغفله حتى ذبل أو ضعف، و: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا).

ثم جاء التكليف الشرعي عقيب تقرير المنة الربانية، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين حكم الربوبية إنعاما، وحكم الألوهية إيجابا وتحريما، فـ: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا: فقيد الأخذ بالحال: "بقوة"، فهي عمدة في المعنى وإن كانت فضلة في المبنى، فليس المراد الأخذ مطلقا، فليس ذلك بأخذ الأنبياء عليهم السلام، وليس ذلك بأخذ أتباعهم ممن حملوا أمانة التبليغ فكانت الرسالة في قلوبهم حارة، فذلك رسم العلماء العاملين وكانت في قلوب غيرهم باردة، وإن كان لهم من تحرير مسائل الشريعة نصيب أوفر، وذلك مقصد شرعي رئيس، ولكنه إن لم يسق بماء العمل، فليس له ثمرة، وليس لصاحبه ذكر في العالمين، فليس من أهل: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، فما رفع ذكر عالم إلا بعمل، وما صار العز بن عبد السلام رحمه الله: عزا للدين والدنيا إلا بحشد الجموع في عين جالوت فأنكر على القاعد وشد أزر القائم فكان سيف الدين قطز سيفا سله الله، عز وجل، على أبناء المغول، وكان ركن الدين ببيرس ركنا شديدا آوى إليه أهل الديانة، وما صار ابن تيمية شيخا للإسلام إلا بعمل صدق العلم: فجهر بالحق وأوذي في سبيله، ثم قدر فعفا، ودافع التتار في شقحب، فسل سيف الشريعة على أعدائها، فكان شيخا وإماما لها، والكلام في زمن السعة يسير، وفي زمن الضيق عسير عزيز فلا يجري إلا على ألسنة المخلصين الذين صدقت أعمالهم أقوالهم، وإن قلت، فقول قليل يعمل صاحبه بمقتضاه يثمر ما لا يثمره قول كثير لا حظ لصاحبه من العمل، وفي النوازل تظهر الكمائن النفسانية والمعادن القلبية، وليس تمني الابتلاء بمطلب شرعي، وإنما هو وارد كوني يظهر الله، عز وجل، به ما لا يظهر في زمان العافية.

فذلك الأخذ الذي تقام به الأديان، فأحق الناس به الأنبياء عليهم السلام، لا سيما أولي العزم، فهم صفوة الصفوة، والكليم، عليه السلام، ثالثهم، فمن يأخذ الألواح بقوة غيره؟!.

والأمر على بابه للوجوب، فأخذ الشرائع واجب على كل مكلف والأنبياء عليهم السلام من جملة المكلفين بشريعة رب العالمين تصديقا وامتثالا، وإنما توجه الخطاب إليهم ابتداء على سبيل المواجهة، فهو المأمورون بالتبليغ فيتوجه إليهم خطاب الوحي قبل غيرهم، فهم أصل وغيرهم لهم تبع، فخطاب أممهم: خطاب إعلام بالشرع وإلزام بأحكامه، إلا ما ورد الدليل على اختصاصه بالرسول، فذلك استثناء من قاعدة كلية، فالأصل في التشريع: العموم، فلا يصار إلى الخصوص إلا بدليل ناقل عن الأصل العام، وقد جاء الأمر العام لقومه عقيب الأمر الخاص له، وإن كان خطابه، كما تقدم، خطاب مواجهة خاص، وتشريع عام، فالعموم مستفاد منه ابتداء، ومع ذلك جاء الأمر العام لقومه فذلك جار مجرى الإطناب توكيدا واحترازا لئلا يظن من قل علمه قصر أمر الديانة على شخص أو جماعة بعينها يوكل إليها الأمر برسم الكهنوت الذي صير للدين رجالا وللدنيا آخرين!، فالأولون متصدرون برسم الطغيان، والآخرون مقلدون برسم العمى، فقد عميت البصائر فعطلت العقول عن العمل فانحط أصحابها إلى رتبة الأنعام: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير