تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

برسم التنعم في اللحد، وحياة أخروية برسم الخلود في دار النعيم.

فصح الإنكار من هذا الوجه بل عظم على من صرف ما لا يصرف ضرورة إلا للرب، جل وعلا، إلى غيره، من المعبودات الأرضية الباطلة، ولو كانت، كما تقدم، شريفة في نفسها، فما دعا ملك أو نبي إلى عبادته، فـ: (لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، فقياس العقل الصريح: نسبة كل حكم إلى الوصف الملائم له، فينسب حكم الألوهية إلى وصف الربوبية الكاملة التي لا يتصف بها بداهة إلا من له كمال القدرة والحكمة، فتلك أوصاف ومناصب لا تقبل الشركة بداهة حتى عند من أثبت الشركاء، فالمثلثة، وإن وقعوا في الشرك من وجه، فأثبتوا للأقانيم من وصف الأولية ما للرب، جل وعلا، بزعم أنها من وصفه القائم بذاته، فأوليتها من أوليته مع كونها في نفسها ذوات مستقلة، يثبت لمن قال بها حكم التشريك في وصف الرب المليك، جل وعلا، فإن وقعوا في ذلك إلا أنهم يثبتون للأقنوم الأول الذي انبثقت منه بقية الأقاتيم بزعمهم، يثبتون له من أوصاف الربوبية تقديرا وإيجادا وتدبيرا ما ليس لبقية الأقانيم، كما أشار إلى ذلك شارح الطحاوية رحمه الله، فمنصب الربوبية عندهم، وإن كانوا مشركين، منصب يختص بوظائف لا تقبل الشركة، فذلك من جنس جواب المشركين، فـ: (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وكذلك الشأن في الثنوية، فإله النور عندهم أكمل من إله الظلمة، فهو خالق الخير، فله من الخصائص التي انفرد بها ما ليس لإله الظلمة، فصح إفراد واحد بمنصب لا يقبل الشركة حتى عند من وقع في شرك الصفات، كشرك الأولية عند النصارى، أو الأفعال كشرك الخالقية عند الثنوية، أو شرك العبادة عند مشركي العرب، فهذا الواحد منفرد بأوصاف يظهر أثرها ضرورة في الكون، فـ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فكلها آيات كونية ظاهرة تفيد علما ضروريا بكمال ذات ووصف وفعل من أجراها على سنن محكم، ومن ذلك حده، فوصفه أكمل وصف وحكمه أعدل حكم فبه قامت السماوات والأرض، من ذلك حده فهو المستحق لمنصب الألوهية إفرادا لا يقبل الشركة فذلك، كما تقدم، مقتضى قياس العقل الصريح الذي تواطئ أحكامه خبر النقل الصحيح، فهو الإله المعبود بحق لأنه الرب المنفرد بالخلق، وهذه الآية عند النظر والتدبر، برهان عقلي دامغ فضلا عن كونها مستندا خبريا محفوظا برسم العصمة: أداء وبلاغا، فـ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

فقال لأهله: امْكُثُوا: فذلك من كمال أدبه، عليه السلام، على ما ذكر بعض أهل التأويل من عادة أهل المروءات في خطاب الأهل بضمير الجمع فهو مئنة من التعظيم، فيجري مجرى قول الشاعر:

فإن شئت حرمت النساء سواكم ******* وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردا

فخاطبها بضمير الجمع، كما يقول صاحب "الأضواء" رحمه الله، فذلك مئنة من عظم قدرها عنده، وكمال مروءته، فتلك حال أصحاب الفضل مع نسائهم، وللأنبياء عليهم السلام من ذلك أعظم حظ، فتلك حال الكليم عليه السلام مع شدة عزمه، فقد جمع إليها لينا ورقة مع أهل بيته، وتلك حال النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو مقدم الأنبياء عليهم السلام في كل خصلة محمودة، فـ: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي. ما أَكْرَم النساءَ إلا كريم، ولا أهانهنّ إلا لئيم"، فحصل بالإخبار بعين المبتدأ بقيد الأهل مزيد تخصيص، فهو مئنة من القصر الادعائي مبالغة في تعليق حكم الخيرية بالإحسان إلى الأهل والذرية، فضلا عن تعريف الجزأين، ثم جاء وصفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخيرية المطلقة في هذا الباب وإن لم يختص به فهو أشرف أفراد النوع في كل كمال

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير