تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[أبوأيوب]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 06:05 م]ـ

كلام عظيم لابن القيم في فائدة التفكر والتدبر

لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة، وهو شديد الحاجة إليه، ثم قيل له: إنه مسموم، فإنه لا يقدم عليه؛ لعلمه بأن سوء ما تجنى عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة أكله.

فما بال الإيمان بالآخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة!

ما ذاك إلا لضعف شجرة العلم والإيمان بها في القلب، وعدم استقرارها فيه.

وكذلك إذا كان سائرا في طريق، فقيل له: إن بها قطاعا ولصوصا. يقتلون من وجدوه، ويأخذون متاعه. فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجهين: إما أن لا يصدق المخبر، وإما أن يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم، وإلا فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم، فإنه لا يسلكها.

ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من إيثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم إن إيثاره للعاجلة وترك استعداده للآخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانه أبدا

الحالة الثانية أن يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق، وأن هذه الدار طريق إلى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين إليه.

ويعلم مع ذلك أنها باقية، ونعيمها وعذابها لا يزول، ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل إليه إلا كما يدخل الرجل إصبعه في اليم، ثم ينزعها فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة إلى الآخرة.

فيثمر له هذا العلم إيثار الآخرة وطلبها والاستعداد التام لها، وأن يسعى لها سعيها.

قال الله تعالى: " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ".

وقال تعالى: " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ".

ويسمى التفكر تدبرا؛ لأنه نظر في أدبار الأمور، وهي أواخرها وعواقبها. ومنه تدبر القول وقال الله تعالى: " أفلم يدبروا القول " وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ".

وتدبر الكلام: أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة. والتذكر والتفكر له فائدة غير فائدة الآخر فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه؛ ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه.

ولهذا قال الحسن رحمه الله: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة. فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه، كما قال بعض السلف ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل.

فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم،

فإن كل من علم شيئا من المحبوب أو المكروه لا بد أن يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الإرادة توجب وقوع العمل.

فها هنا خمسة أمور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الإرادة وثمرتها العلم.

فالفكر إذاً هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له.

حتى قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة

فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور.

وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة.

فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منه الإرادات والعزوم، فيتولد منها العمل.

وأما إذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له، وفيما أمر به، وفيما هيء له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعا، وهذا كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكنا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير