ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكله وهيأته ووضعه.
وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة، والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء، فيوصله إلى القلب، فيتروح به، ويتغذى به!
ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن؛ لئلا يمسك الرائحة، فيضعفها، ويقطع مجراها.
وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه، ثم تخرج منه!
واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدق من أسفله؛ لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات، فخرجت بسهولة؛ ولأنه يأخذ من الهواء ملأه، ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره، ولا يزعجه!
ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة، فإنه لما كان قصبة، ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس، ومجرى النفس الصاعد منه، جعل في وسطه حاجزا؛ لئلا يفسد بما يجري فيه، فيمنع نشقه للنفس. بل إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب، فيبقى الآخر للتنفس، وإما أن يجرى فيهما فينقسم، فلا ينسد الأنف جملة. بل يبقى فيه مدخل للتنفس!
وأيضا فإنه لما كان عضوا واحدا، وحاسة واحدة، ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما، فإنه ربما أصيبت إحداهما، أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها، فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة، وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا، فنصب فيه أنفا واحدا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجرى مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة، وهو واحد، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين!
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع، وأليقه به، وأودع فيه من المنافع، وآلات الذوق، والكلام، وآلات الطحن، والقطع ما يبهر العقول عجائبه!
فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانا لملك الأعضاء مبينا مؤديا عنه، كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه!
فالأذن رسوله، وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد!
واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر!
وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء، وألينها، وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف، ولغير ذلك من الحكم والفوائد!
ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هن جمال له، وزينة، وبها قوام العبد، وغذاؤه!
وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها، وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا!
وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما، وهما الشفتان، فحسّن لونهما، وشكلهما، ووضعهما، وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم، وطبقا له، وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام، ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطا، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة!
واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صرفا لا عظم فيه، ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مص الشراب، ويسهل عليه فتحهما، وطبقهما!
وخص الفك الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخف أحسن؛ ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة!
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والخشونة والملاسة، والصلابة واللين، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا!
ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميز البصير بينهم بصورهم، والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور!
وزين سبحانه الرأس بالشعر، وجعله لباسا له؛ لاحتياجه إليه!
وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير!
فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوسهما، وأحسن خطهما!
وزين أجفاف العينين بالأهداب!
وزين الوجه أيضا باللحية، وجعلها كمالا ووقارا، ومهابة للرجل!
وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وتحتهما من العنفقة!
وكذلك خلقه سبحانه لليدين ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.
¥