تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك وكان يدعو: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك". يعلم صلى الله عليه وسلم أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} ". اهـ

ص23.

فأكمل الخلق عبودية أعظمهم شهودا لفقره وضرورته، فلا يستغني عنه في أمر الدنيا على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك"، فالعموم يشمل أمر الدنيا على جهة التضمن، فهو متضمن لأمر الدين والدنيا معا، فلا تكلني إلى نفسي في تحصيل أسباب صلاحها من الشرع والكون، ولا تكلني إلى أحد من خلقك، فإن الإحالة عليه: إحالة على مفلس فأنى يقضي الدين؟! ولا يستغني عنه في أمر الروح على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك"، فالدلالة على أمر الدين في هذا السياق: دلالة مطابقة فلم يشرك معه غيره من أمر الدنيا، لعظم أمره وخطر شأنه فهو أهل لأن يفرد بالدعاء، إذ هو معقد النجاة، فلا صلاح إلا به، إذ هو مادة كل صلاح في المعاش والمآل، وضده من الكفر بالإنكار أو الظلم بالإشراك مادة كل فساد باطن وظاهر، إذ لا يرجى لبناء قيام على أصل فاسد، فإنه فرع عنه، وللفرع حكم الأصل بداهة فذلك جار على وزان قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، فلم يغن صلاح الفرع شيئا إذ فسد أصله.

فالعاقل لا يرى لنفسه فضلا، إن أجرى الله، عز وجل، عليه نعمة كونية فله الحمد والمنة، وإن أجرى عليه نعمة شرعية فوفقه إلى طاعة لم يدل عليه بطاعته، بل زاده ذلك شكرا وعرفانا، فاستعان بمدد الرب الكوني على إقامة أمر الإله الشرعي، فإنه لولا أن من عليه، جل وعلا، بأن اصطفاه لطاعته فخلق في قلبه: إرادة الخير، وصحح له آلات فعله، فخلق فيه القدرة قبل الفعل، ووفقه إلى إيجاد الفعل بأن خلق فيه الاستطاعة حال مباشرته، فيسر له الأسباب وذلل له العوائق، وخلق ذات الفعل، فقام بالفاعل المخلوق: قيام الفعل بفاعله، وصحت نسبته إلى الرب، جل وعلا، نسبة مخلوق إلى خالق، فله الحمد في الأولى والآخرة: خلق الطاعة فضلا ثم أثاب عليها وهي محض منة منه ابتداء، فأي كرم أعظم من ذلك، وأي غنى أكمل من ذلك، ومن الذي له ذلك غيره تبارك وتعالى؟!.

وللأنبياء عليهم السلام من تلك المنقبة أعظم نصيب فهم أعظم الخلق فقرا وتألها للرب، جل وعلا، فوصف يوسف الصديق، عليه السلام، في أشرف مقامات الدفع لهم المعصية بقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، فعلة صرف ذلك السوء: أنه من عبادنا المخلصين على حد عبودية الرسل الخاصة: عبودية الاستسلام ظاهرا وباطنا، عبودية الانقياد بأجناس الطاعات القلبية واللسانية والبدنية، لا العبودية العامة التي تشترك فيها كل الكائنات، فليس فيها مزيد فضل إذ يستوي فيها العاقل والبهيم، بل والشجر والجماد فـ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا).

ولذلك حسن الفصل فلم يأت العاطف بين شطري الآية، لشبه كمال الاتصال بين العلة المصدرة بـ: "إن": "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" ومعلولها الذي صدرت به الآية: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير