تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفقر إلى ألوهيته إقامة للأرواح: وهو فقر الرسل والصديقين، الفقر إلى الوحي قائدا متبوعا في رحلة الهجرة المرضية إلى رب البرية، جل وعلا، فيكون الوحي هو الحاكم الآمر الناهي في كل شأن فمنه يستمد علومه وأحكامه وأحواله وأذواقه وسياساته ........... إلخ، فلا غنى له عنه طرفة عين إذ لا صلاح لمعاشه الحالي أو معاده المآلي إلا به، فالغفلة عنه: غفلة عن سبب الحياة العليا، بمنزلة من حجب عن رئته الهواء، فإن ذلك مظنة هلاك بدنه، فكذلك من حجب عن قلبه نور الوحي الهادي فإن ذلك مظنة خرابه وموته، فالفقر الأول: عام، والفقر الثاني خاص، والفقر الأول مما يستمد سببه من الكون، بخلاف الثاني فلا مستند له إلا الوحي، فالأبدان مفطورة على الحاجة إلى غذاء الأرض النابت، والقلوب مفطورة على الحاجة إلى غذاء السماء النازل، فتلك يحفظ بها روح البدن، وهذه يحفظ بها روح القلب، والملة الخاتمة هي الملة الأكمل في هذا الباب الذي ضل فيه فئام من البشر، فالغالب على بني آدم الطمع في الظاهر المعجل، والزهد في الغائب المؤجل، فغذاء الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح هو الغاية التي تفنى في تحصيلها الأعمار، ثم هي، مع دنو منزلتها إذا ما قورنت بالنعيم الباقي في دار الخلد لا تخلو من المنغصات، فلا يخلو المأكول والمشروب من مادة فساد، تكدر على الآكل أو الشراب صفو لذته، لا سيما في الأعصار المتأخرة التي أصبح الصيام فيها فضيلة شرعية، وفضيلة صحية على طريقة من يصوم حمية ليقي بدنه آثار الأسمدة والمبيدات والهرمونات ........ إلخ التي تعالج بها الأطعمة، تحسينا، زعموا، وهي عين التقبيح والعبث في الفطرة الأولى التي وجدت عليها الأرزاق، وكأن بني آدم لم يكتفوا بتبديل الفطرة الدينية بما أحدثوه من بدع علمية وعملية، والفطرة البشرية، فعبثوا بأجسادهم، كما هو حال أرباب الموضات في زماننا، ثم انتقلوا بعد الفساد اللازم في أنفسهم إلى الفساد المتعدي في غيرهم فتعدوا على فطرة الحيوان الحساس، وذلك مما أمرهم به الشيطان المريد على حد قوله تعالى: (وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ)، ثم تعدوا على فطرة النبات بما أحدثوه من معالجات جعلت السلامة في كثير من الأحيان اجتناب تناوله!، فلم يسلم من إفسادهم بر ولا بحر، بل لم يسلم منه جو السماء بما أطلقه البشر من أجرام صناعية لا تبث غالبا إلا ما يفسد الأديان والأبدان فضلا عما تحدثه موجاتها الكهرومغناطيسية من فساد لطبقات الغلاف الجوي. وفي التنزيل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

ولا يخلو الملبوس من مادة بلاء، وتأمل حال من يكسى حلة جديدة، فهو بها فرح جذلان، وبعد عام أو عامين تصير خرقة بالية، ربما استعملها هو نفسه بعد ذلك في خسائس الأمور.

ولا يخلو المنكوح من مادة عجز وهرم، فالشباب والجمال والصحة: عَوَارٍ مستردة، وتأمل حال من اتخذ أهلا في أول أمره فهو مسرور بما طرأ عليه من نعمة الزوج، وإن لم يكن ذلك غالبا لا سيما في أعصار النكد الحالية! التي صار فيها الزواج مادة للحرب والمنافسة بين الأسر المسلمة لا مادة تراحم وتواد فكل طرف يتفنن في إرهاق الطرف الآخر لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وكأنها صفقة لبيع نعجة أو شراء خروف!، وبمرور الأيام يقل هذا السرور شيئا فشيئا، حتي يصير عادة بعد أن كان في أوله أمرا خارجا عن العادة يستحق الاحتفاء، وهكذا كل لذة فانية تفقد حلاوتها شيئا فشيئا، بل ربما صارت مرة لا تستساغ بعد أن كانت حلوة تشتهيها النفوس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير