تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتلك لذة الدنيا: لذة عابرة من الفناء وإلى الفناء، وبينهما من الكدر ما لا تصفو فيه لصاحبها، وإن استعار لذلك من المحسنات ما استعار، فهكذا طبعت، فرقانا بين اللذة الباقية، لذة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)، لذة: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، واللذة الفانية لذة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ)، لذة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

يقول ابن القيم رحمه الله في معرض تقسيم الغني إلى سافل وعال:

"والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال.

فالغنى السافل: الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذى هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذى فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.

قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر.

وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره". اهـ

ص47.

وفي عصرنا الحاضر، لا يكاد يسلم قلب من الخوف: من الفقر، من الخوف: من الغد وما فيه، لا سيما وقد سلبنا نعمة الأمان، جزاء وفاقا على قعودنا عن نصرة إخواننا المستضعفين الذين أخيفوا في ذات الله، عز وجل، على حد قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فلما ابتغينا الأمن ولو بمخالفة الأمر الشرعي، فقعدنا عن الواجب استرضاء لمن لا يرضى من اليهود والنصارى وأهل البدع المغلظة والعلمانيين والملاحدة .......... إلخ من أجناس الضُلاَّل، عوقبنا بضد مرادنا، فلم يزدهم استرضاؤنا إلا سخطا، ولم يزدهم ضعفنا إلا قوة، ولم يزدهم كفنا عن طلبهم إلا طمعا في غزونا بالشبهات والشهوات، والأسنة والرماح، فغزوهم قد عم الأديان إفسادا والأبدان إهلاكا. ولكل سلاحه الفتاك.

فالدول تخشى أن تجتاح وقد صار ذلك عادة مطردة في بلاد المسلمين في السنوات الأخيرة كما جرى لبلاد الأفغان فالبلقان فالعراق فغزة أخيرا، وقد كانت النازلة الغزية صفعة مدوية على الوجوه التي آثرت السلامة: على حد الإهانة لا الكرامة.

والأفراد يخشون الفقر في زمن ساءت فيه الظنون بالرزاق، تبارك وتعالى، فشحت بالدرهم والدينار، فصار جمع الأموال مقدما على جمع الحسنات، على طريقة: عصفور في اليد!. وذلك من فساد التصور لأمر الغيب، الذي ولد فسادا في الحكم فضعف إيماننا بالغيب، وهو من أخص أوصاف أهل الإيمان المنجي، على حد قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). فضلا عن فساد التصور لأسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، فلم نعرفها ابتداء، أو عرفناها ترفا علميا لا عمل يصدقه، فلو علمنا غنى الرب، جل وعلا، وقدرته على إغناء كل الخلق عموما، وأهل التقوى خصوصا على حد قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، ولا تكون إلا مشفوعة بحكمته الباهرة، فله في العطاء حكمة وله في المنع حكمة، لو تصورنا ذلك تصورا علميا صحيحا، ما بقي للخوف من المستقبل في قلوبنا مكان، إذ الخوف من الخالق يذهب أي خوف آخر.

ولا يعني ذلك تمني الفقر، فهو بئس الضجيع، وهو مظنة تشتت الأذهان وفساد الأمزجة فلا تلتفت إلى إقامة أمر الدين إذ كيف يخشع الجائع أو الخائف؟! والأصل في ذلك حديث أبي بكرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"، وقيس عليه الحاقن أو الحاقب إذ ذلك مظنة تشتت الذهن، وإذا قرب الطعام وأقيمت الصلاة فالفقه البدء بالطعام ما لم تصر تلك هي العادة على جهة التعمد!، وقيس عليه التائق إلى لذة كجماع أو نحوه، إذ لا تتفرغ النفس إلى العبادة إلا بعد استيفاء حاجتها.

ولا يعني ذلك: التعرض إلى البلاء على حد التهور، فلا يعدل العاقل بالسلامة في الدين والدنيا شيئا.

ولا يعني ذلك: ترك الاستعداد لما هو آت من مستقبل الأيام، فذلك من العجز لا الكيس، وإنما الكيس: بذل السبب مع تمام التوكل.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير