ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 08 - 2009, 07:47 ص]ـ
ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى تعريف الفقر الذي ذكره شيخ الإسلام الهروي، رحمه الله، صاحب "منازل السائرين" بقوله:
"فقوله، (أي: الهروي رحمه الله): "الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة" يعنى أَن الفقير هو الذى يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلي فليس لك فى نفسك ولا فى كسبك شيء.
فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة فى يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: (والله إِنى لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت) ". اهـ
فهو براءة من رؤية ملك الأعيان أو الأفعال، فإنه لا يستقل بملك شيء منها،
فما كان من أعيان تحت سلطانه، بادي الرأي، بما فيها:
بدنه الذي استخلف فيه إقامة له على حد الحلال المريء الذي لا تبعة في تعاطيه. وفي التنزيل: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
فالبدن آلة التكليف التي بها تكون الأفعال، متعلق الثواب والعقاب، ولا عمل صحيح بآلة أصابها العطب، ولذلك يرتفع التكليف الشرعي بورود المقدور الكوني من علة أو موت، إذ القدرة الكونية مناط التكليف الشرعي، فالاستطاعة السابقة للفعل سبب التكليف الشرعي، فبها خوطب المكلفون أجمعون بالتكليف على حد الوجوب والإلزام، فذلك قدر مشترك بين عامة البشر، وإنما امتاز المسددون بمعاضدة الاستطاعة الكونية المقارنة للفعل بالاستطاعة المتقدمة عليه، فتوافقت الإرادتان: الشرعية والكونية، في محل واحد، فما أسعده بتلك النعمة السابغة التي لا تعادلها نعمة: نعمة معرفة الحق ابتداء، فالعلم صحيح نافع، ونعمة امتثاله فالعمل صالح، ولا يكون ذلك ابتداء من فقير لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل ليس ذلك التوفيق إلا محض عطية ربانية يهبها الباري، عز وجل، لمن شاء من عباده بمقتضى حكمته البالغة، فهو الأعلم بمحال الهدى والضلال، فلا يضع الهدى في محل فاسد لا يقبل غراس النبوات فأرضه ملساء جرداء لا تقبل بذرا ولا تخرج ثمرا، ولا يضع الضلال في محل صالح فذلك من السفه الذي تنزع عنه آحاد الحكماء فكيف بمن له منها وصف الكمال الذي لا تحيط المدارك به وإن تصورت معناه كليا مجردا.
وروحه التي استخلف فيها بإقامتها على أمر الوحي، لا يملكها، إذ هي عارية بيد المستعير متى أراد المعير استرجاعها فليس لإرادته معارض، إذ ذلك من القضاء الكوني المحتوم.
فالحاصل أنه عري عن الملكة، ليس له منها إلا ملكة مقيدة يسير فيها بما حده له صاحب الملك المطلق، جل وعلا، فللبدن أحكام من يوم الميلاد إلى يوم الميعاد، وللروح أحكام من يوم النفخ إلى يوم النزع، فهو كما يقول ابن القيم رحمه الله:
"متصرف فى تلك الخزائن بالأَمر المحض تصرف العبد المحض الذى وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم فى البذل والإِمساك". اهـ
ص25.
¥