تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، ورضي لما يرضي الله، وسخط لما يسخط الله، فكان بالله، ولله، فهو العبد الذي اصطفاه بارئه، فخلع عليه نعمة الافتقار إليه، فهو الغني عما سواه من الأسباب، لا يباشرها إلا على حد الشرع، إذ تعطيلها بالفناء في معاني الربوبية، حتى يفنى الناظر عن ملاحظة الأسباب، كما جرى لكثير من العارفين المخلصين، ذلك الفناء الشهودي عن ملاحظة السبب الحاضر: ليس مراد الرب، عز وجل، الشرعي، إذ توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله، مرقاة إلى المراد لذاته، مرقاة إلى درجة: توحيد الله، عز وجل، بأفعال العبد على حد الاستسلام القلبي والانقياد العملي، فهو التصور العلمي الأول: الذي لا يتلقى إلا من خبر النبوات الصحيحات، فيرد على العقل الصريح فيزكيه بما يورده عليه من أسماء وأوصاف وأفعال الرب، جل وعلا، الكاملات، فإذا استحضر ما له من معاني الكمال المطلق على حد ما قررت الرسالات دون خوض في الكيفيات، إذ ذلك فوق المدركات البشرية في الدار الأولى، فليس لهم من كمال الوصف ما يجعلهم أهلا لرؤية الرب، جل وعلا، فإذا استقر بهم المقام في دار النعيم كمَّل الله، عز وجل، لهم المدارك، فصاروا أهلا، لأعظم نعمة، إذ ليس فوق جنس اللذات العلمية لذة، وأعلاها: لذة العلم بالله، عز وجل، على حد الرؤية البصرية بلا إدراك إذ لا يدرك المخلوق عظمة الخالق، عز وجل، وإن بلغ من الكمال البدني والعقلي ما بلغ، فذلك مما اختص الباري، عز وجل، به نفسه، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وإن أعطى بعض عباده من المحامد ما لم يعطه غيرهم، على حد قول صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "آتي تحت العرش وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع"، وإن أعطاهم ذلك على حد الاختصاص المشعر بالاصطفاء بتلك المنة وأعظم بها من منة: إلا أنه لم يعطهم إلا قبسا من مشكاة كمالاته التي لا منتهى لها، فلا منتهى لكلماته، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وتلك من أوصافه، والقول في بعض أوصافه كالقول في بعض فلا منتهى لكمال أوصافه سواء أكانت: معنوية أم خبرية، ذاتية أم فعلية، والقول في صفاته فرع القول في ذاته، فكمال صفاته العلية فرع كمال ذاته القدسية، فله الكمال الأزلي الأبدي ذاتا وصفاتا، فأي لذة علمية أعظم من لذة رؤية من ذلك وصفه؟!، وأي علم أصح وأنفع للمكلف في الدارين من علم الرسالات التي فصلت القول في تلك المعاني الجليلات، فجاءت بما يشهد العقل الصريح والفطرة النقية بصحته، فصادف خبر الوحي محلا صحيحا قابلا، فأنبت في القلب شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها من صالح الأعمال، كل حين، إذ صلاح العمل، كما تقدم مرارا، فرع صلاح العلم، وبتلك القوتين يقيم المكلف أمر دينه، فإنه لا بد من علم نافع متقدم وعمل صالح مصدق، وإلا كانت دعوى بلا برهان، ولذلك كان الإيمان: قولا وعملا، فقول بالقلب اعتقادا، وقول باللسان تلفظا، وعمل بالقلب تخشعا وتذللا، وعمل باللسان: استغفارا وتسبيحا، وعمل بالجوارح صلاة وصياما وحجا وجهادا، بل وإتلافا للنفس إن كان في ذلك حفظ الدين من الدروس أو التبديل.

ويشير ابن القيم، رحمه الله، إلى الباعث على انتحال وصف العبودية الاختيارية بقوله:

"وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة فى ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير