تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وقوله: "البراءَة من رؤية الملكة". ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له فى الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذى الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، عليهم الصلاة والسلام وكذلك أَغنياءُ الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة فى الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما فى أَيديهم لله عارية ووديعة فى أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم، فوجود المال في يد الفقير ليس يقدح فى فقره، إِنما يقدح فى فقره رؤيته لملكته، فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأَوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذى ينفذ أَوامره فى ماله، فهذا لو كان بيده من المال مثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أَكبر همه ومبلغ علمه، إِن أعطى رضي، وإِن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموماً ويمسى كذلك فيبيت مضاجعاً له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأَسف إِذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إِذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر، والأَول مستغن بمولاه المالك الحق الذى بيده خزائن السموات والأَرض، وإِذا أَصاب المال الذى فى يده نائبة رَأَى أَن المالك الحق هو الذى أَصاب مال نفسه". اهـ

ص27.

فليست البراءة من رؤية الملكة: خلع الثياب وارتداء الأسمال، والاجتزاء بخشن الطعام تعذيبا للبدن وقهرا للنفس، والسياحة في الفلوات هربا من تبعات الحياة، فقد يفعل الإنسان ذلك ويبقى في قلبه من طلب الجاه والرياسة ما يفسد حاله، فيكون قد تجرد من شهوة البدن الظاهرة، ولكنه لم يتجرد من شهوة القلب الخفية، فالنفوس قد جبلت على حب الترأس للأتباع، وسماع التعظيم والثناء منهم ولو زورا وبهتانا كحال متملكة الأديان والبلاد الذين أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم تحصيلا لمكاسبهم ورياساتهم الزائلة.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 08 - 2009, 08:29 ص]ـ

ثم يقول رحمه الله:

"فما للعبد وما للجزع والهلع، وإِنما تصرف مالك المال فى ملكه الذى هو وديعة فى يد مملوكه، فله الحكم فى ماله: إِن شاءَ أَبقاه، وإِن شاءَ ذهب به وأَفناه، فلا يتهم مولاه فى تصرفه فى ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إِلى المالك الحق، فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إِليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية فى سورة الليل بل قال: {وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} وهذا - والله أَعلم لأَنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر فى سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته، فعل المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بداً من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهى التى وعد بها أَهل الإِحسان بقوله: {لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ} ". اهـ

ص27، 28.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير