تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكل من أولئك: نصيب من الفساد العلمي فمن مقل ومن مكثر، وبقدر ذلك يكون فساد الإرادات والأقوال والأعمال، فيظهر الجاهل بوصف ربه عز وجل من الغنى الذاتي، الجاهل بوصف نفسه من الفقر الذاتي، ما ليس له من وصف الغنى المطلق، فرعا عن رؤية ملكة ناقصة لعين فانية استخلف في تدبيرها على حد مراد مالكها الذي استخلفه لا على حد مراده، فظن أن له من الملك نصيبا، ولو كان ذلك حقا ما أعطى غيره قطميرا، فـ: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا): فأكد الحكم بورود الاسم بعد: "لو"، والأصل فيها أن يليها الفعل الماضي، فورود الاسم بعدها مظنة التوكيد والاختصاص، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فضلا عن دخول: "إذن" على الجواب إمعانا في التوكيد ثم ذيل بعلة ذلك: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، مئنة من استمرار اتصافه بذلك الوصف، فهو جبلة فيه فرعا عن فقره الذاتي الأصيل، فإن الفقير هو الذي يضن بما في يده، وهذا حاله، فكيف ادعى لنفسه تمام الملكة؟!: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)، فالاستفهام على حد الإنكار الإبطالي، فلو كان ذلك لهم لمنعوا الناس القطمير فكيف يما يجري الرب، جل وعلا، من المكاسب والأرزاق، فذلك فرقان بين غنى الرب، جل وعلا، فهو من الهدى المشفوع بالبينة، فحال البشر خير شاهد على تمام غنى الرب، جل وعلا، وكمال قيوميته، فإنه لا قبل لبشر بإجراء ما يجريه الرب، جل وعلا، من النعم، ولو كان مالكا لأعيانها، وذلك من المحال، ما وسعه إجرائها على ذلك النحو الباهر الدال على حكمة الرب البالغة، فإعطاء بقدر، ومنع بقدر، فيبسط فضلا، ويقبض عدلا، ويوسع على من شاء لئلا يفسد حاله بالفقر إن كان صالحا، وليستدرجه إن كان طالحا، ويضيق على من شاء عدلا، فيحجب عن أصحاب الديانة ما يفسد عليهم أحوالهم الكاملة من متاع دنياهم الزائل، ويلجم الفساق بحجب عطائه، إذ لو وسع عليهم لبغوا وطغوا، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

فهو بأحوال عباده: خَبِيرٌ بَصِيرٌ، يعلم دقائق نفوسهم وما جبلوا عليه من طلب الاستعلاء طغيانا، فلو مد لهم من أسبابه لفسد حالهم، فبغوا في الأرض إفسادا، فله من القدرة النافذة ما ينزل به ما يشاء من الأرزاق: وفرة أو ندرة، حلالا بلا تبعة، أو حراما على صاحبه التبعة .......... إلخ، وتلك القدرة، كما تقدم في أكثر من موضع، لا تكون إلا مقترنة بحكمة وعلم محيط، فلا عطاء ولا منع إلا بقدرة وحكمة، ولذلك ذيل الآية باسمي: (خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، فهو خبير بالعلوم الباطنة بصير بالأعمال الظاهرة.

والشاهد أن ذلك الفساد في التصور هو الذي ولد ذلك الاستغناء بتلك الملكة الزائلة، فهو عرض ظاهر من أعراض فساد الباطن.

ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان أول درجات الفقر وهو: "فقر الزهاد"، فقال:

"وهو، (والكلام لشيخ الإسلام الهروي رحمه الله)، نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه.

فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً فهو لا يضبط يده مع وجودها شحاً وضناً بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وإِلحافاً وحرصاً. فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب، إِذ لو كان لها فى القلب منزلة لكان الأَمر بضد ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إِليها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير