تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته خصوصا، وأبوة الرسل عليهم السلام لأممهم عموما: أبوة روحية، إذ تعاهدوا أرواحهم بالتربية والعناية، كما يتعاهد الآباء أجساد أبنائهم بالغذاء والدواء والملبس ........ إلخ، وشتان الرعايتين: رعاية الأرواح الباقية، ورعاية الأبدان الفانية، فقد أخرجت الرسالات قلوب العباد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، فاستعارة الظلمات المجموعة لطرائق الشرك المتشعبة، واستعارة النور المفرد لطريق التوحيد المتفرد، مئنة من لزوم اتباع السبيل الواحد: سبيل النبوة الهادية لئلا تتشعب المسالك بالسالك فيضل في أودية الشرك على حد قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فتلك الوصاية: وقاية من تعلق القلب بغير الله على التعبد تصريحا أو تلميحا، إذ لكل من تعلق بغير الله، على حد الافتقار، من وصف العبودية نصيب، فمن مقل ومن مكثر.

ثم شرع، رحمه الله، في بيان أنواع القلوب فهي على ثلاثة أنحاء:

"والمقصود أَن القلوب فى هذه الولادة ثلاثة:

قلب لم يولد ولم يأْن له بل هو جنين فى بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.

وقلب قد ولد وخرج إِلى فضاءِ التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأَنست بقربه الأَرواح، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأَن بالله، وسكن إِليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إِلى الرفيق الأَعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إِلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ومحبته وقوته، لا يجد من الله عوضاً أبدا.

فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جدب قلبه عن الله: "وإِن كان القريب المصافيا". ووليه من رده إِلى الله وجمع قلبه عليه: "وإن كان البعيد المناويا"، فهذان قلبان متباينان غاية التباين.

وقلب ثالث فى البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أَصبح على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أَشعة التوحيد، تأْبى غلبات الحب والشوق إِلا تقرباً إِلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ فى طاعته وحبه، وتأْبى غلبات الطباع إِلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الدّاعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.

والمقصود أَن صاحب هذا المقام إِذا تحقق به ظاهراً وباطناً، وسلم عن نظر نفسه إِلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي، ليس فيه قادح من القوادح التى تحطه عن درجة الفقر". اهـ

ص30.

فقلوب لم تخرج عن حد الحيوانية، وإن كان لأصحابها هيئات آدمية، فليس لهم من شرف الإنسانية إلا ظاهر الأجساد المنتصبة، بخلاف القلوب المنتكسة التي صيرت أصحابها أحط من البهائم، على حد قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، فالأنعام على فطرة التوحيد، وإن لم تكن على حد التكليف، وأولئك قد بدلوا الفطرة الأولى، فلطخوها بأدران الشرك والشهوات المحرمة من عشق صور، ومأكل سحت ............. إلخ.

وقلوب قد تحررت من رق عبودية المخلوق، فانطلقت في فضاء التوحيد، فلا ترجوا إلا الله، عز وجل، على حد الرغبة، ولا تخاف إلا منه على حد الرهبة، ولا توالي ولا تعادي إلا له، ولا تحب ولا تبغض إلا فيه، فهو وليها الأوحد على حد قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، على حد القصر بتعريف الجزأين فضلا عن التصدير بالتوكيد الذي دل عليه الناسخ: "إن"، فهو الذي نزل الكتاب بالحق هاديا للقلوب إلى نافع العلوم، وهاديا للألسنة إلى صحيح الأقوال، وهاديا للجوارح إلى صالح الأعمال، فله من البينات ما يدل على حد الجزم على صحة ولايته الكونية والشرعية على القلوب والأبدان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير