وفي المقابل: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، وشتان رب يسمع ويبصر ويجيب الدعاء، ورب لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب دعاء، ولا يملك لنفسه فضلا عن غيره: ضرا ولا نفعا.
وقلب: يتردد بين الوصفين، فإذا زاد الذكر زاد الإيمان، فتيسرت الولادة، وإذا فتر نقص الإيمان فتعسرت الولادة. والله، عز وجل، يتجاوز عن الغفلات التي لا يسلم منها مكلف إلا من عصمه الله، عز وجل، على رسم النبوات.
وهذا حال أغلب السالكين إلى الله، عز وجل، فنوبة إفاقة ونوبات غيبوبة، فلم تضع الحرب، كما يقول ابن القيم في موضع تال، أوزارها بين الروح والبدن، فكل يثخن في الأخر، وإنما النصر صبر ساعة، فمن صبر واحتسب، أفلت ونجا، والله، عز وجل، يغفر ساعات الغقلة، ويبارك ويثمِّر ساعة الصحوة.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان مواضع ذم الدنيا إذ لا تذم على الإطلاق فهي المطية إلى دار البقاء، والمطية إن لم تكن صحيحة كلت ولم تبلغ بصاحبها مراده.
قال رحمه الله:
"واعلم أَنه يحسن إِعمال اللسان فى ذم الدنيا فى موضعين:
أَحدهما: موضع التزهيد فيها للراغب.
والثاني: عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إِلى طلبها ولا يأْمن من إِجابة الداعي، فيستحضر فى نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد". اهـ
ص30.
فإذا رأيت راغبا فيها على حد الافتقار، فهو يرضى ويغضب لها، وإن انتهكت حرمات الملك، عز وجل، فتحقير شأنها في عينه أليق، كتزهيد الغني فيها على حد الترقيق ليخرج حق ما تحت يده مما استخلف فيه، وكترهيب الشاب الجلد إذ الشباب مظنة الغفلة وقسوة القلب.
وإذا رأيت معرضا عنها على حد الزهد الغالي، فلا يلتفت إلى تحصيل السبب المشروع، ولا يتعاطي طيب المأكل والمشرب والمنكح، ديانة، وليس ترك المباح مما يتدين به في ملتنا الحنيفية، إذا رأيت من ذلك حاله فرغبه فيها على حد الاعتدال، كترغيب الشيخ الفاني فيما عند الله، عز وجل، من النعيم الباقي، فحاله أليق بالترغيب، فالترهيب قد يوقعه في اليأس والقنوط وإساءة الظن بالله، عز وجل، الغفور الرحيم، فيهلك بذلك.
وإذا رأيت نفسك مقبلة على الدنيا إقبال الطامع الراغب فألجمها بلجام: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 08 - 2009, 07:43 ص]ـ
ثم عقد ابن القيم، رحمه الله، فصلا في: "تفسير الفقر ودرجاته" أشار في أوله إلى تنازع الشرع والهوى: ملك الجوارح: القلب فقال:
"والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإِرادة وحب يخرج منه هم وإِرادة وحب يقابله، فهو إِناءٌ واحد والأَشربة متعددة، فأَى شراب ملأَه لم يبق فيه موضع لغيره، وإِنما يمتلئ الإناءُ بأَعلى الأَشربة إِذا صادفه خالياً، فأَما إِذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أَتانى هواها قبل أَن أَعرف الهوى ******* فصادف قلباً خالياً فتمكنا
(ولذلك كان من فضل الله، عز وجل، على الشاب المتنسك أن يوفق في أول أمره إلى صاحب سنة، كما أثر ذلك عن بعض السلف، إذ لا تنفك القلوب غالبا عن نوع انتصار للشيخ أو المعلم الأول).
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إِنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأَن كل شراب فمسكر ولا بد، و: "ما أَسكر كثيره فقليله حرام"، وأَين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسنيم - الذي هو أَعلى أَشربة المحبين- في إِناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأَجنحة الشوق إِلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكين بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأَخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أى حظ أَضاع إِذا فاز المحبون، وخسر المبطلون". اهـ بتصرف.
ص32.
¥