تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالشرع والهوى لا يجتمعان في موضع إلا تدافعا، فذلك من السنن الكونية الجارية، فمتى تمكن نور الوحي من القلب ضعف بل اضمحل سلطان الهوى، على حد قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، و: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، ومتى تسلل الهوى من ثغور القلب إذا غفلت جنوده الشرعية، تولد من ذلك فساد بقدر تلك الغفلة، إذ أحدث الهوى في حائط الصد الإيماني: ثلمة: تسللت منها أجناده لتعثوا في أرض القلب مفسدة، فإن لم يتدارك القلب ذلك النقصان، بعلوم وأعمال تزيد الإيمان فتسد تلك الثغرة وتجبر تلك الكسرة: إن لم يتداركه بذلك: اتسع الثلم اتساع الخرق على الراتق، فاستباحت الشبهات والشهوات محلة القلب: ففسد الملك وبفساده تفسد بقية الأجناد، فيتولد من ذلك الفساد الأول في التصورات القلبية العلمية فساد عريض في أحكام البدن العملية، على ما اطرد من تلازم العلم والعمل صحة وفسادا.

وسنة التدافع، كما تقدم، سنة مطردة: فتدافع المقالات والديانات في القلوب وعلى الألسنة: أصل يصدر عنه التدافع البدني في ساحات الوغى، فما حمل السيف انتصارا عمليا للملة أو النحلة، ولو باطلة شوهاء، إلا فرعا عن علم القلب الأول، فإن صح المعلوم الذهني صح المعمول الخارجي، والعكس صحيح، فلا يقع التعدي بإزهاق الأرواح وانتهاك الحرمات إلا فرعا عن التعدي في علوم وأعمال القلب، فمن تعدى في البغض الباطن، تعدى في الانتصار الظاهر بظلم خصمه، ولذلك جاء التحذير: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

وجهاد عباد الرحمن في مقابل عدوان عباد الصلبان والأوثان فرقان في تلك المسألة الجليلة: مسألة العدل في الأسماء والأحكام على المخالفين من أعداء الدين، والتاريخ شاهد عدل على صحة أحكامنا علما وعملا، أحكام: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فهو أعظم صور الظلم في العلوم، فلزم رفعه بـ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، و: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"، فذلك أعظم صور العدل في الأحكام، ومع ذلك: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، و: "انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا تَغُلُّوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". كما عند أبي داود، رحمه الله، في "السنن" من حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا.

وثبت نحوه عن الصديق، رضي الله عنه، عند عبد الرزاق في المصنف وفيه وصاية الصديق رضي الله عنها لقادة جيوش الفتح: "ولا تقتلوا شيخا كبيرا ولا صبيا ولا صغيرا ولا امرأة". اهـ

فالعدل في الشدة فلا تعدٍ بسفك أو انتهاك، والعدل في اللين بلا ميوعة أو إعطاء للدنية في الدين هي مئنة من برودة دم صاحبها إذ انطفئت جذوة الولاء والبراء في قلبه أو كادت فهي باهتة لا تكاد تضيء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير