تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والتلوث بالأعراض الدنيوية، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، قيد يقيد القلب عن سفره في هجرة الفرار من الله، عز وجل، إليه، الهجرة من أعراض الدنيا الفانية إلى أعيان الآخرة الباقية، فإذا أثقل القلب بهم الفاني، فصار هو محبوبه ومطلوبه، قعد عن طلب الباقي الذي تعلقت به الهمم العلية، والعاقل بربأ بنفسه عن منازل الدون، فلا يُسْكِن بدنه الحشوش، فما باله قد رضي لقلبه من المراتب الدنية ما لم يرضه لبدنه، مع أن مناط نجاته: ما وقر في قلبه لا ما تعلق ببدنه من متاع زائل، هو عارية مستردة يقتات بها من الجوع، ويتقي بها من البرد، فلا يضر القلب إذا سلم من المحذورات الشرعية: ما يصيب البدن من المقدورات الكونية، وليس ذلك دعوى إلى إتلاف الأبدان بلا مصلحة راجحة، فذلك مما ينقض الضرورة الشرعية الثانية، فحفظ الأبدان من مرادات الشرع إذ هي مطايا الرحلة فإذا عطبت، انقطع السير بصاحبها، كما تقدم في موضع سابق، وإذا ضعف البدن بالتفريط في حظه من طيبيات المأكل والمشرب والملبس والمنكح .......... إلخ، لم يقو على تكليفات القلب، فالقائد، وإن كان كامل الفكرة، لا يستقل بالتنفيذ دون جنده، بل لا بد له من جند صحيح الآلات ليحمل عدة القتال، فيباشر الضراب والطعان، فأنى لبدن معطوب أن يقوم بالتكليف المشروع؟!.

ولذلك كان تقصد المشقة في شرعتنا السمحة تنطعا خارجا عن حد المشروع، فالمشقة في الحنيفية السمحة تعرض للفعل فليست جزءا منه، بل هي وافد من الخارج عليه، فمن وجد الماء الساخن في اليوم البارد فعدل عن الوضوء به إلى الوضوء بالماء البارد، فقد تكلف ما يشق على نفسه، وذلك ذريعة إلى بغض المشروع، إذ هو على هذا النحو: قرين المشقة، فمجرد تصوره: تصور لما تبغضه النفس جبلة، فأي صد للقلب عن سبيل الله، أعظم من ذلك، وإن باشره صاحبه على حد الديانة، وتلك من مزالق الشيطان الخفية، إذ يحمل العبد على التزام ما لا يلزم لنشاط آني يجده في نفسه، فإذا دوام على تقصد المشاق: فترت همته وضعف بدنه فترك العمل جملة بعد أن كان قد التزمه جملة بل زاد عليه ما ليس منه إمعانا في التدين، وذلك حد البدعة الشرعية، إذ ما وقع فيه هو عينها.

يقول الشاطبي رحمه الله:

"فمن ذلك، (أي: من صور الابتداع الحقيقي أو الإضافي)، أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة: أحدهما سهل والآخر صعب وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس كالذى يجد للطهارة ماءين: ساخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ويترك الآخر فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد فالشارع لم يرض بشرعية مثله وقد قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فصار متبعا لهواه ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات

إسباغ الوضوء عند الكريهات ......... الحديث.

من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها لأنا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ففيه أمر زائد كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده ساخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ

وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد". اهـ

"الاعتصام"، ص326، 327.

وإنما وجب البيان هنا لخفاء الفارق بين الزهدين: المشروع وغير المشروع فقل أن يسلم أحد من: الإفراط أو التفريط، والحق وسط بينهما.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 08 - 2009, 07:58 ص]ـ

ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى فضل الله، عز وجل، على العبد الموفق إذ اصطفاه لطاعته، فقال:

"فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأَقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير