تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان سبحانه هو الأَول فى ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر فى كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهراً وباطناً فعبوديته باسمه الأَول تقتضى التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتديء بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَى وسيلة كانت هناك، وإِنما هو عدم محض، وقد أَتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى. فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة وعبوديته باسمه الآخر تقتضى أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تعدم لا محالة وتنقضى بالآخرية، ويبقى الدائم الباقى بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحى الذى لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أَن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إِليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، فكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر حيث تنتهى الأَسباب والوسائل فهو أَول كل شيء وآخره، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته وحده ونهايته ومقصوده". اهـ

ص33، 34.

فهو الأول: له الأولية في ذاته وله الأولية في صفاته، على حد الإطلاق، فذاته القدسية أزلية قد قامت بها أوصاف الكمال الربانية: جلالا وجمالا على حد القدم، فليس قبل ذاته ذات، وليس قبل وصف كماله وصف، لم يكتسب كمالا كان عنه عريا، بل له وصف الكمال أزليا أبديا، ولا يعرض له نقص كان منه بريا، بل هو السلام من كل أوصاف السوء، القدوس المنزه عن كل ما يسوء، فله الكمال بالإثبات تفصيلا والنفي إجمالا على ما اطرد في التنزيل والوحي، فمن كان ذلك وصفه في الأولية: فهو بإفاضة العطايا الكونية والشرعية على عباده جدير، فكما أن له أولية وصف الذات، فإن له أولية وصف الفعل، ففضله على عبده سابق، فهو الذي تفضل عليه ابتداء بلا سابق يد استحقاق بالإيجاد، فقد كان معدوما فصار بالكلمة التكوينية موجودا، وكان ضعيفا لا يقدر على السير فصار بسنة الرب، جل وعلا، قويا قادرا على المشي بل السعي بل الركض!، ثم رد إلى سابق الضعف إمعانا في بيان عجز العبد في مقابل قدرة الرب، جل وعلا، فكان في أحسن التقويم ثم رد إلى أسفل السافلين، وكان فقيرا فصار بأسباب الرزق التي يسرها الله، عز وجل، له، غنيا مليا، ثم إذا شاء الرب، جل وعلا، فارقه وصف الغنى فرد فقيرا، أو فارق هو أسباب الغنى فمضى إلى بارئه عريا عن الأسباب لا مغيث له من وصف جلال الرب إن كان مسيئا، ولا غنى له عن وصف جمال الرب إن كان محسنا، فإن العمل سبب كبقية الأسباب، لا يستقل بالتأثير حتى يقبل، فإذا قبله الكريم على ما فيه من دخل، فنماه وثمره لعبده، صار ذريعة إلى النجاة بالفوز برضا الرب، جل وعلا، وثوابه في دار النعيم الأبدي.

فتفضل على عبده بأولية الإيجاد والإعداد، ثم ابتدره بالإمداد الكوني بأجناس الغذاء الأرضي، والإمداد الشرعي بأجناس الغذاء السماوي الذي لا يستحصد إلا من أرض النبوات البكر التي تؤتي من أكل الوحي ما تصح به القلوب المريضة والأرواح العليلة، فهي الروح الشرعي الذي يسري في القلوب سريان الروح الكوني في الأبدان، فببقائه يكون الصلاح وبمفارقته يكون الفساد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير