وهو الآخر الباقي بعد زوال الأسباب، فمن تعلق بها على حد الافتقار إليها واعتقاد تمام التأثير بالضر أو النفع في أعيانها، فقد تعلق بالفاني، ومن تعلق به، جل وعلا، فقد تعلق بالصمد، فهو الباقي بعد فناء خلقه من الأعيان والأسباب، فأين من تعلق بالفاني الذي يعتريه الفساد والعدم، ممن تعلق بالباقي الذي له وصف الكمال من الأزل إلى الأبد.
فالتعبد لله، عز وجل، بمقتضى هذين الاسمين يقتضي دوام الافتقار إلى الرب، جل وعلا، فهو الحي فمنه أسباب التكوين، وهو القيوم فمنه أسباب التدبير، يقول قوام السنة رحمه الله:
"القيوم: القائم الدائم في ديمومة أفعاله وصفاته". اهـ
"الحجة في بيان المحجة"، (1/ 129).
فهو المتصف بديمومة الفعل على حد الكمال الذي لم يسبق بعدم، فلم يكن، جل وعلا، معطلا عن وصف الكمال أزلا، ولا يزول عنه أبدا، فوصف الكمال لذاته القدسية لازم.
فلا غنى للعبد عنه ابتداء وانتهاء، فابتداء أمر العبد كلمته التكوينية بالإيجاد، وصلاح حال العبد تتابع كلماته التكوينية بالرزق والتدبير، وانتهاء أمره كلمته التكوينية بالإعدام، ليمتاز وصف الرب الأول الآخر في وجوده وكماله عن وصف العبد الحادث ذاتا وصفاتا بعد أن لم يكن، فالذات حادثة بالكلمة التكوينية، كما تقدم، والكمال طارئ فالفعل له سابق، بخلاف فعل الرب، جل وعلا، فهو، كما تقدم في أكثر من موضع، صادر عن كمال وصفه الأول.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يقصد ويعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ". اهـ
وعلى ما اطرد من تلازم الربوبية تقريرا علميا، والألوهية تقريرا عمليا بأفعال العبد يصدق العلم بأوصاف الرب وأفعاله:
"فكما كان واحداً فى إِيجادك فاجعله واحداً فى تأَلهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإِرادتك وتأَلهك إِليه لتصح لك عبوديته باسمه الأَول والآخر، وأَكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأَول، وإِنما الشأْن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأَتباعهم، فهو رب العالمين وإِله المرسلين سبحانه وبحمده". اهـ
فهو الإله المعبود فرعا عن كونه الرب الموجد، والصانع بصنعته أولى، فله ملك العين ونماؤها، فمن أتلفها فعليه ضمانها، ومن اغتصبها فعبدها لغير بارئها فعليه ضمانها وضمان منفعتها، إذ بُذِلت لغير مستحقعا، فالمالك، بداهة، بقياس العقل الصريح أولى بخراج مملوكه، فكيف صح في الأذهان أن يصرف العبد خراجه لغير مالكه، فيصرف من أجناس التأله لغير الرب، جل وعلا، ما لا يصح صرفه إلا له، فذلك عين الظلم، بل هو أعظمه، فلا يغفره الرب، جل وعلا، مع عظم عفوه ورحمته.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 09 - 2009, 09:05 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء".
فإِذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه ليس فوقه شيء ألبتة، وأَنه قاهر فوق عباده يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، صار لقلبه أَملاً يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه. بخلاف من لا يدري أَين ربه فإِنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إِليه قصده. وصاحب هذه الحال إِذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إِلهاً يسكن إِليه ويتوجه إِليه، وقد اعتقد أَنه ليس فوق العرش شيء إِلا العدم، وأَنه ليس فوق العالم إِله يعبد ويصلى له ويسجد، وأَنه ليس على العرش من يصعد إِليه الكلم الطيب ولا يرفع إِليه العمل الصالح، جال قلبه فى الوجود جميعهُ فوقع في الاتحاد ولا بد، (وهذا من شؤم نفي الصفات وعدم إجرائها على ما جاءت به النبوات من الإثبات اللائق بجلال الرب جل وعلا)، وتعلق قلبه بالوجود المطلق السارى فى المعينات، فاتخذ إِلهه من دون الإِله الحق وظن أَنه قد وصل إِلى عين الحقيقة، وإِنما تأَله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيال نحته
¥