ومن هذا الباب ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: "يقول الله أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "عبدي مرضت فلم تعدني فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده".
فقال: "لوجدتني عنده" ولم يقل لوجدتني إياه وهو عنده أي في قلبه والذي في قلبه المثال العلمي.
وقال تعالى: "عبدي جعت فلم تطعمني فيقول وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي" ولم يقل لوجدتني قد أكلته.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها".
وفي رواية: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته".
وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك كأشباه النصارى.
والحديث حجة على الفريقين فإنه قال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" فأثبت ثلاثة: وليا له وعدوا يعادي وليه وميز بين نفسه وبين وليه وعدو وليه فقال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه بأنه معاد لله.
ثم قال تعالى: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" ففرق بين العبد المتقرب والرب المتقرب إليه ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.
ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره وهو كل شيء أو في كل شيء قبل التقرب وبعده وعند الخاص وأهل الحلول صار هو وهو كالنار والحديد والماء واللبن لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.
ثم قال تعالى: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" وعلى قول هؤلاء الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي والرسول إنما قال: "فبي" ثم قال: "ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه" فجعل العبد سائلا مستعيذا والرب مسؤولا مستعاذا به وهذا يناقض الاتحاد وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه يريد به المثال العلمي.
وقول الله: "فيكون الله في قلبه" أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته وهو المثل العلمي فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي وما زلت بين عيني ومنه قول القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ******* ومثواك في قلبي فأين تغيب ....................... ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو وله وجود في المعلوم والأذهان ووجود في اللفظ واللسان ووجود في الخط والبيان ووجود عيني شخصي وعلمي ولفظي ورسمي وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها وهي الشمس التي في السماء ثم يتصور بالقلب الشمس ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس ويكتب بالقلم الشمس". اهـ بتصرف
"الجواب الصحيح"، (2/ 198_202).
فوجب التفريق بين أنواع الوجود: الحقيقي الخارجي، والعلمي الذهني، واللفظي اللساني، والخطي البياني، فلو وجد الإنسان ورقة قد كتب عليها لفظ الجلالة: "الله"، فأشار إليه قائلا: أنا أعبد هذا، هل يتصور عاقل أنه أراد أنه يعبد وجوده الخطي؟!، فيعبد الورق والمداد والحروف المكتوبة به أو أنه أراد أنه يعبد الوجود الحقيقي الذي يدل عليه ذلك الاسم المكتوب، وهو الله، عز وجل، المسمى بذلك الاسم الدال على الذات القدسية التي قامت بها أوصاف الكمال العلية.
¥