تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن: إثبات وصف العلو في هذا الموضع حتم لازم لئلا يختلط الأمر على من ضعف علمه أو قل عقله، فغلا في إثبات قرب الله، عز وجل، فحمله على قرب الذات الموجب للاختلاط بذوات المخلوقين الفانية بحلول أو اتحاد، كما هو حال من غلط في هذا الباب من النصارى وإخوانهم من الحلولية والاتحادية، فقد اختلطت عليهم الأمثال العلمية بالحقائق الخارجية، فجردوا ألفاظ المعية في نحو قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته"، جردوها من القرائن اللفظية بنزعها من سياقها، فهي مادة تفيد مطلق المصاحبة، فتقيد بالسياق الذي يرجح المصاحبة الذاتية تارة، والمصاحبة المعنوية على حد الإحاطة العلمية تارة أخرى، والمصاحبة المعنوية على حد استجابة الدعاء تارة ثالثة، والمصاحبة المعنوية على حد النصرة والتأييد تارة رابعة ........ إلخ.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان معنى القرب المذكور في القرآن والسنة:

"وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذاناً بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ و: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ"، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البطون، (إذ القرينة شاهدة على كونه قربا خاصا متعلقا بمشيئة الله، عز وجل، على حد المعية في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، فليست معية علمية عامة ولكنها معية تأييدية خاصة لمن اتصف بوصف الإحسان فهو مظنة الثناء والتأييد الرباني فرعا عن التزام الأمر الإلهي فهو استوجب لصاحبه وصف الإحسان الشرعي، فلا يظن دلالة هذا اللفظ على قرب الذات القدسية الموجب للاختلاط والاتحاد بذوات المخلوقات الأرضية، إلا من ضعف قلبه عن تصور تلك الحقيقة الربانية، وضعف عقله فصرف ظاهر النص إلى محال، وفسد استدلاله لقلة بضاعته في علوم اللسان العربي الذي نزل الوحي به، إذ بتر اللفظ من سياقه، فحمله على دلالته المطلقة، ولا تعرف العرب لفظا مجردا عن السياق الذي يرد فيه فهو بمنزلة الهذيان، إذ لا بد من سياق ولو مقدر في نحو قولك في معرض إجابة السائل: من القادم؟: محمد، فلفظ محمد إنما أفاد بالنظر إلى السياق المقدر الذي دل عليه السؤال المتقدم، فتقدير الكلام بداهة: القادم محمد، أو: محمد القادم، وهذا أصل في معرفة مراد المتكلم بأي لسان عموما، وباللسان العربي خصوصا الذي امتاز بالبراعة في الإيجاز بحذف ما دلت القرائن اللفظية أو الحالية عليه).

ويواصل ابن القيم، رحمه الله، فيقول:

"وفي الصحيح من حديث أَبي موسى أَنهم كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ فإنكم لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير