فأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبعد الناس عن هذا الشطح فلم تظهر تلك الدعاوي في زمانهم، ولم ينتشر الصعق والهذيان في صفوفهم، بل كان لهم من الرسوخ القلبي والرسوخ البدني فرعا عن الرسوخ العلمي والرسوخ العملي ما جعلهم غزاة فاتحين بالنهار، عبادا خاشعين بالليل، ولكل مقام مقال، فهم كما قال عنهم ابن مسعود رضي الله عنه: "أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ".
فقطع النظر عن القرائن المحتفة، وهي جزء من دلالة الظاهر على معناه، إذ يصير له من الدلالة التركيبية ما ليس للفظ المفرد، قطع النظر عنها والوقوف عند حد دلالة اللفظ المطلق على أصل المعنى مجردا من أي قيد: مظنة الخطأ في الفهم، بل قد يؤدي إلى تحميل الألفاظ الصحيحة من المعاني الباطلة ما الله به عليم، وهو ما وقع للنصارى الذين حَمَّلوا متشابهات ألفاظ ما عندهم من كتب ما لا تحتمل من معان باطلة هي الكفر الصراح الذي ينكره نقل النبوات الصحيح وعقل البشر الصريح، فتأويلاتهم: من جنس تأويلات الباطنية التي لا قانون مطرد لها حتى عند أصحابها، فلا نقل يشهد، ولا عقل يقبل، إلا من فسد قياس عقله بتقليد فاسد، على حد التسليم المطلق لأرباب الباطل الذين صيروا نصوص الأديان الواضحة أسرار كهنة غامضة، فلا يعلمها إلا الكهنة الخواص، وما على الأتباع العوام إلا السير على طريقتهم وإن أنكرتها بقية فطرة سوية أو عقل صريح، فتلك أمور لا تخضع لقياس عقل، فيجوز لله، عز وجل، أن يبتلي عباده بتصديق المحالات، ولو بلغت حد القدح في ذاته القدسية وصفاته العلية!، فلا يقبلها إلا من هذا حال عقله، أو من خرج عن حد العقلاء فانتفى عنه وصف العقل جملة وتفصيلا، فعدل أولئك عن المحكمات ابتداء، إلى المتشابهات انتهاء، فأولوها على حد ما تقدم من جنس تأويلات أهل الباطن، وهذا حال كل من أعرض عن الحق الصريح فإنه إلى الباطل صائر لا محالة، فإن الإناء، كما تقدم من كلام ابن القيم، رحمه الله، لا يتسع لشراب الأنبياء الطيب، وشراب كهان المقالات الخبيث، فيوسع صاحب المقالة دائرة استدلاله بأدلة لا تدل على مدلولاته، بل هي عند التحقيق ناقضة لها.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وهذا كمن يريد أن يثبت حل جميع الملاهي لكل أحد والتقرب بها إلى الله تعالى بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد مع كون وجهه كان مصروفا إلى الحائط لا إليهما.
أو يحتج على استماع كل قول بقوله تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، (فتكون هذه الآية دليلا على حل الغناء بصفته المعاصرة إذا كانت الكلمات هادفة!).
ولا يدري أن القول هنا هو القرآن كما في قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين).
ولا نسلم أن يسوغ استماع كل قول وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس مع الخائضين في آياته وخوضهم نوع من القول فقال تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) الآية
وقال تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم).
وقال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما).
وقال تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم) ". اهـ بتصرف يسير.
"الرد على البكري"، ص385.
فانظر إلى المتشبث بأهداب نصوص لا تدل على صحة مقالته أو طريقته، فليست نصوصا في محل النزاع، بل هي، كما تقدم، بعد النظر والتأمل: ناقضة لمقالته نقضا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 09 - 2009, 08:31 ص]ـ
¥