تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الثمرة الإيمانية من معرفة وتدبر تلك الأسماء المتقابلة: الأول والآخر، و: الظاهر والباطن، فإن العقول قد تباينت في مسألة: التعبد بأسماء الله، عز وجل، تباينا عظيما تبعا لتباينها في معرفة خبر الرسالات وتلقيها إياه بالرضا والقبول، فالتعبد بأسماء الله، عز وجل، عند الفلاسفة: التشبه بالخالق، عز وجل، ما أمكن، مع أنهم يصفونه بالوجود المطلق بشرط الإطلاق عن أي وصف، وذلك عين العدم، فأي وصف ثبوتي يتشبهون به؟، وهو عند بعض أهل العلم: التخلق بالأوصاف التي دلت عليها تلك الأسماء على حد الإطلاق دون تقييد، فيحسن في حق العبد الاتصاف بأي وصف اتصف به الرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، ولو كان ذلك الوصف مما لا يليق اتصاف العبد به، كصفات الجلال من: كبرياء وعظمة ......... إلخ، أو أوصاف الكمال المطلق التي هي فرقان بين العبد والرب، جل وعلا، كوصف الغنى المطلق فإنه في حق الله عز وجل: واجب، وفي حق العبد: ممتنع، إذ هو مظنة فساد حاله فضلا عن كون الواقع شاهدا باستحالة اتصافه بذلك فالفقر كما تقدم مرارا وصف ذاتي لازم لذاته لا ينفك عنها فهو أحد خصائصها الأصيلة من لدن إيجاده وإلى يوم إعدامه، فالجهة منفكة، إذ هو كمال في حق الرب، جل وعلا، نقصان في حق العبد، فإطلاق اتصاف العبد بأوصاف الرب، جل وعلا، في باب التعبد لا يخلو من نظر، إذ لازمه اتصاف العبد بما لا يليق به وذلك مظنة فساد حاله، كما تقدم، ولم تشرع العبادة إلا لإصلاح القلوب وعمران الجوارح بالصالحات المنجيات لا المفسدات المهلكات.

وهو عند بعض أهل العلم: التعبد بمقتضاها، فيتعبد بمقتضى أوصاف الجمال رغبا، ويتعبد بمقتضى أوصاف الجلال رهبا، فإذا علم دلالة اسم الغفور على صفة المغفرة تضمنا: تاقت نفسه إلى مغفرة الله، عز وجل، فأحدث بعد كل ذنب توبة، وإن علم دلالة اسم الجبار على صفة الجبروت تضمنا انكفت نفسه عن المعصية ابتداء خشية جبروته.

وهو عند فريق رابع، وهم أسعد الناس في هذا الباب، إذ استدلوا بخبر الرسالة المعصوم فكفوا مؤنة البحث، هو عندهم: الدعاء بها: دعاء ثناء ودعاء مسألة، فذلك مما جاء به التنزيل على حد قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، فالفاء قد أشربت معنى السببية، فلا ينفك عنها أبدا، وإن لم تكن نصا فيه، فليست كل فاء نصا في السببية، وإنما حدها النحاة بحدود مذكورة في كتبهم، ومع ذلك لا تنفك الفاء التعقيبية، عن معنى سببية لا سيما وقد جاء بعدها أمر هو فرع عن الخبر السابق لها، فله الأسماء الحسنى، على حد الاختصاص والاستحقاق، فهي الجامعة لأوصاف الحسن المطلق فلا يعتريها النقصان على أي وجه صرفت، وبأي لسان تليت، فلازم ذلك إفراده بعبادة الدعاء خوفا ورجاء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهي: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هي أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ في معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.

واعلم أَن لك أَنت أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بل كل شيء فله أَول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأَدنى من ذلك وأكثر.

فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأَوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير