تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكم استخرج من جنس الطاعة بمقارفة جنس المعصية، وكم أحدثت معاص في النفوس من الذلة والانكسار إلى الرب، جل وعلا، ما كان سببا في نجاة صاحبها مآلا، وإن كان من المخلطين حالا.

وهو الذي امتن عليهم بأسباب قيام الأرواح، فأنزل الوحي الشرعي، حفظا للقلوب، كما أنبت الغذاء حفظا للأبدان.

فإذا تقرر ذلك الفقر الكوني اللازم: فهو على الفقر الشرعي دليل جازم، فالعباد مفتقرون إليه: ربا خالقا رازقا، ومفتقرون إليه: إلها معبودا شارعا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وربما ذهل صاحب هذا المشهد، (أي: مشهد الربوبية، وهو ما عرف بـ: "فناء الشهود"، كما يأتي إن شاء الله، وهو الذي غلب على كثير من خيار أهل الطريق الذين فنوا بمشاهدة المسبِّب، جل وعلا، عن مشاهدة السبب، وذلك ذريعة إلى تعطيل الأسباب التي ابتلي العباد بها، إذ الشرع عليها قد قام)، عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحي القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.

وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، (إذ بضدها تتميز الأشياء فبملاحظة غنى الخالق، عز وجل، المطلق، يتميز مقابله من فقر المخلوق المطلق)، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغني بلا مال القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد. قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. (ومن لا ترنو نفسه إلى تلك الأوصاف التي تفنى الأعمار طلبا للتخلق بها ولو على حد الاكتساب مع ما فيه من تكلف وحمل للنفس على غير مراداتها وحظوظها)، ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد:

أَصبحت منفعلاً لما يختاره ******* مني، ففعلي كله طاعات

وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا الموضع، وفي هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهي بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح، (شهود الألوهية أمرا ونهيا)، إِلى شهود الاضطرار فى حركاته وسكناته، (شهود الربوبية خلقا وتدبيرا)، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون مشيئته، وأن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه". اهـ

بتصرف من: ص41، 42.

فإن شهود الحقيقة الكونية، شهود مشيئة الرب، عز وجل، النافذة، شهود ربوبيته دون نظر إلى شرعه وألوهيته مظنة الجبر، إذ فيه: اعتبار لجانب القدرة الإلهية، وإهمال لجانب الحكمة الإلهية، فيصير الشرع عبثا، إذ قد أمر الله، عز وجل، بما لم يرده، والعارف هو الذي يتتبع مراد الله، عز وجل، أيا كان!، وتلك دعوى مجملة تفتقر إلى البيان، إذ الله، عز وجل، لا يأمر شرعا بما لا يحبه، فلا يأمر بالفحشاء شرعا، وإن أمر بوقوعها كونا، فاقتضت حكمته الإلهية وقوعها، مع كونها مفسدة يلزم المكلفين بذل السبب الشرعي في رفعها أو تخفيفها، فالناظر بعين القدر: يؤمن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير