فمن شهد الحقيقة الكونية فهو من الجبرية الغالية في الإثبات، فالمحبة عنده ترادف الإرادة، وجانب القدرة النافذة عنده أرجح من جانب الحكمة البالغة، فكل ما أراده الله، عز وجل، فهو من محبوباته الشرعية، ولو كان عين ما نهى عنه من الشرك والكفران!، وذلك مسقط للتكليف بل مسقط للملة بأكملها، إذ كل أفعال العباد مرضية للرب، جل وعلا، وذلك مبطل للنبوات، إذ ما الحاجة إليها، وكل ناج، بموافقة الإرادة المرادفة للمحبة، بزعمهم، ولذلك كان أولئك من أبطل الناس في باب الأمر والنهي، فليس لهم من معرفة المعروف وإنكار المنكر نصيب، على حد قول ابن سينا: "العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله، تعالى، في القدر". اهـ
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "شفاء العليل"، في معرض التعليق على هذا القول المبطل للشرائع:
"وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل وأعرف خلق الله به رسله وأنبياؤه وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصره بالأمر والقدر فإن الأمر يوجب عليه الإنكار والقدر يعينه عليه وينفذه له فيقوم في مقام: (إياك نعبد وإياك نستعين) وفي مقام: (فاعبده وتوكل عليه)، فنعبده بأمره وقدره ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره فهذا حقيقة المعرفة وصاحب هذا المقام هو العارف بالله وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم". اهـ
وليس لهم من عقد الولاء والبراء الذي يؤرق مضاجع أعداء الرسالات نصيب، إذ كل قد استوى، فلم يعد هناك ولي يوالى وعدو يعادى، فوحدة الأكوان عينا ذريعة إلى وحدة الأديان عقدا، كما تقدم في موضع سابق، والأفعال كلها على حد واحد هو: الرضا لمجرد وقوعها على وفاق الأمر الكوني، ولو كانت على خلاف الأمر الشرعي، بل ولو كانت عين الضد له كما تقدم.
فوحدة في الأفعال عند أهل الجبر، ووحدة في الأعيان عند أهل الاتحاد، ووحدة في الأديان عند أهل الزندقة والانحلال، وكل من ذات العين يستقي، وكثيرا ما تجتمع تلك المخازي في محل واحد إذ هي إلى التلازم العقلي أقرب، فالمنشأ واحد والمعنى الكلي الجامع لها واحد.
وهي كلها، عند النظر والتدبر، على الضد مما جاءت به الرسالات النازلة وقررته النبوات الهادية.
وأصحاب هذا القول: نفاة لحكمة الرب، جل وعلا، إذ يحب وقوع الفساد لمجرد تعلقه بإرادته الكونية النافذة: تعلق الموجود بموجِده، نفاة لعدله، إذ جبر العاصي على معصيته، فقدرها عليه ثم عاقبه عليها، فلازم مذهبهم: وصف الباري عز وجل، بالسفه والظلم، تعالى الحكم العدل عن ذلك علوا كبيرا.
ومن شهد الحقيقة الشرعية فهو من القدرية الغالية في النفي، فجانب الحكمة الشرعية عنده أرجح من جانب القدرة الكونية، فالعباد هم الموجدون لأفعالهم على حد الاستقلال، ومن توسط منهم فقد جعل الخير فقط من مقدوراته الكونية وجعل الشر من مقدورات عباده فلا يريد الشر ولا يخلقه، ولا يرزق الحرام ولا يطعمه، فلازم مذهبه: وصف الباري بالعجز، فيعصى قهرا، إذ: يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، ولو قيد ذلك بقيد: "شرعا" لانحل الإشكال وارتفع الإجمال، فـ: يريد شرعا ما لا يكون كونا، ويكون كونا ما لا يريد شرعا، فيخلق الشر بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادته الشرعية، ويرزق الحرام ويطعمه بمقتضى إرادته الكونية، وإن تعلق الذم بآكله بمقتضى إرادته الشرعية.
وأما أهل الحق فقد نظروا بكلا العينين: عين القدر النافذ، وعين الشرع الحاكم، فقبلوا ما عند الفريقين من الحق، فأخذوا نفاذ القدرة الكونية من الفريق الأول، وأخذوا كمال الحكمة الشرعية من الفريق الثاني، وردوا ما عندهما من الباطل، فردوا الإثبات القادح في الحكمة الشرعية عند الفريق الأول: فريق الجبرية، وردوا النفي القادح في القدرة الكونية عند الفريق الثاني: فريق القدرية.
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة خلق الأسباب والمسببات، فقال:
¥