تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وهو خالق السبب المقتضي وخالق السبب خالق للمسبَّب، فخالق الإِرادة الجازمة التي هي سبب الحركة والفعل الاختياري خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان بإرادته فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ} ". اهـ

ص42.

فقد خلق آلة الفعل، وخلق طاقة الفعل، وخلق إرادة الفعل في قلب الفاعل، فالاستطاعة الموجبة للتكليف بصحة الآلات وانتفاء الموانع الشرعية: منه، والاستطاعة الموقعة للفعل بمباشرته فيصير حقيقة في الخارج وانتفاء الموانع الكونية: منه، فالأولى: عامة لكل المكلفين إذ القدرة مناط التكليف وصحة الآلات وانتفاء الأعذار داخلة في حدها، والثانية: خاصة بعباده المؤمنين، فوحدهم المسددون المعانون على إيقاع الفعل التكليفي على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فالأسباب كلها راجعة إلى مسبِّب واحد لا مؤثر وراءه إذ التسلسل في المؤثرين ممتنع، فمرد الأسباب إلى السبب الأول الذي صدرت عنه صدور المقدور من مقدره، والمخلوق من خالقه، فبكلماته التكوينيات النافذات كان الخلق، فوقع المعلول عقب علته، على حد قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فدلالة التعقيب في الفاء تبطل قول الفلاسفة الذين جعلوا المعلول مقارنا لعلته، فالمخلوق مقارن لخالقه!، وذلك من الفساد بمكان إذ التسوية بين الخالق، عز وجل، والمخلوق، في الذات أو الوصف: تسوية بين أعظم متباينين وذلك بقياس العقل الصريح: ظاهر البطلان، وتبطل قول من عطل الباري، عز وجل، عن وصف كماله، في الأزل، فلم يكن خالقا حتى أراد الخلق فأحدث المخلوق على حد التراخي لا الفور فصار بذلك خالقا!، وجماع القول في هذا الشأن: أن الرب، جل وعلا، متصف بأوصاف الكمال الذاتية والفعلية على الوجه اللائق بجلاله: أزلا وأبدا، فلا يكتسب كمالا كان عنه عريا، ولا يلحقه نقص كان منه بريا.

وإذا استحضر العبد ذلك المقام الرباني القاهر: تولد عنده من الفقر الاختياري النافع ما يجعله يتوجه إلى خالق الأفعال: خيرها وشرها، والأعيان: طيبها وخبيثها، خالق العزائم والإرادات: صالحها وفاسدها، بدعاء الفقير المضطر إلى الغني القادر: (رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ)، فهو الذي بيده أمر القلوب يقلبها بإرادته الكونية، فيقيم ما أقام منها فضلا، ويزيغ ما أزاغ منها عدلا، وهو الذي بيده أمر القلوب يزكيها بإرادته الشرعية، فبعث النبيين بتلاوة الآيات وتزكية القلوب على حد قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فالآيات آلة التزكية، والقلوب: محالها، فإذا وافقت الآلة محلا صالحا للحرث، بذرت فيه بذور الحكمة الإلهية، فأثمرت طيبات من العلم والعمل، فصحت قوى العبد: العلمية الباطنة والعملية الظاهرة، فعقد القلب سليم، وقول اللسان وعمل البدن سديد. فاستقام الظاهر والباطن كما أُمِر العابد، فاجتمعت فيه الإرادتان: الكونية فهي فضل الله إذ أعانه على فعل الطاعة، والشرعية وهي أيضا فضله إذ شرع له بها الشرائع، وأنزل له بها الكتب، وبعث بها إليه الرسل عليهم السلام، فالفضل له أولا وآخرا: خلق وبرأ على أكمل صورة، ثم شرع وأمر بكل خصلة محمودة، فلم يترك عباده هملا، بل دلهم بما ركب فيهم من قوى العقل والفطرة على أسباب الصلاح الكونية، ودلهم بما أنزل لهم من الكنب على أسباب الصلاح الشرعية، فكل أفعاله خير، وكل أحكامه عدل، فاستحضار مقام ربوبيتة القدرية وألوهيته الشرعية: مناط السعادة، مطلوب كل العقلاء، في الدارين، فله الحمد والمنة على ما قدر وشرع.

فإذا أطاع: تواضع إذ ما كان له أن يطيع لولا أن قدر الرب، جل وعلا، ذلك فضلا. فذلك من مقام ربوبية الإنعام بوصف جماله، وإذا عصى: بادر بالتوبة فاستحضر مقام ربوبية القهر بوصف جلاله، فما كان له أن يرد قضاء الرب الكوني.

روى الخلال، رحمه الله، بإسناده إلى محمد بن المبارك الصوري قال: قال رجل لسفيان بن عيينة وقد وعظ الناس عظة رقت منها قلوبهم، فقام إليه، فقال: يا أبا محمد، ما تقول، إن قمت إلى هذا المنبر، فعاهدت الله أن لا أعصيه بعد يومي هذا؟ قال: فقال له سفيان: «ومن أعظم منك جرما إن تأليت على الله عز وجل أن لا يمضي فيك حكمه».

"السنة"، (3/ 561).

وما كان له أن يحتج به لإبطال أمره الشرعي، فاستحضر المقامين: مقام القدر القاهر فحمد الله على ما قضى وقدر، ومقام الشرع الحاكم فبادر بامتثاله توبة واستغفارا، فصح احتجاجه بالقدر الكوني على وقوع المحظور الشرعي، إذ الاحتجاج بالقدر على وقوع المعصية بعد امتثال أمر الشرع بالتوبة منها: جائز، بخلاف من احتج به ولما يتب فهو على المعصية مقيم، وبالقدر عليها محتج فاللوم له لاحق، إذ قوله من جنس قول المشركية: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، فاحتجوا بالقدر على معارضة أمر الشرع.

ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل.

فمن تاب وأناب فقد ارتفع في حقه اللوم فصح احتجاجه بالقدر، ومن عصى وأقام على المعصية فاللوم في حقه كائن، فبطل احتجاجه بالقدر.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير