تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالحسنات والسيئات منك خلقا، فصحت العندية في: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فعموم الخلق لا مخصص له فكل ما سوى الله، عز وجل، من الأعيان والأوصاف مخلوق، فلا ينسب الشر إليك نسبة: ابتداء الغاية، إذ لا شر منك وصفا أو فعلا، تعاليت عن وصف أو فعل السوء، وإنما الشر في المفعول المقدور، مع كونه شرا باعتبار الحال فلا ينفك عن خير أعظم في المآل فما أصابك من حسنة فمن الله، إيجادا، وإعدادا للمحل إذ قبل آثار الوحي النافع، وإمدادا بأسبابها، فيسرها لك، بلا سابق فضل، بل هو الذي اصطفاك لطاعته واستعملك في مراضيه، ولو شاء أبعدك وابتلاك بمساخطه، وما أصابك من سيئة فبما كسبت يداك، فمن معاصيك: ابتداء الغاية، على جهة السبب المؤدي إلى مسبَّبه، ومن الله، عز وجل، ابتداء الغاية على جهة الخلق، إذ بالكلمة التكوينية تكون كل المقدورات: خيرا أو شرا، فصدور الكلمات من الله، عز وجل، صدور وصف من موصوفه، به كانت المقدورات التي صدرت منه: صدور مخلوق من خالقه، فالجهة منفكة بين وصفه الأزلي وخلقه الحادث، والجهة منفكة بين فعل الرب وفعل العبد، ففعل الرب: خلق بمشيئة عامة غير مخلوقة هي فرع عن موصوفها الأزلي الواجب، وفعل العبد: اكتساب بقدرة خاصة مخلوقة فهي فرع عن موصوفها العدمي الممكن.

فالجهات كما تقدم منفكة:

فهي من الله خلقا، ومن العبد فعلا، فابتداء غاية الخلق من الخالق بالكلمة التكوينية، وابتداء غاية الفعل من الفاعل بإرادة مختارة مخلوقة لا تخرج عن حد الإرادة الكونية العامة.

وهي من الله تفضلا وإحسانا إن كانت خيرا محضا، ومن عنده تقديرا وخلقا إن كانت شرا، مع كون الشر فيها نسبي، ولكن نسبتها إليه بلا واسطة عندية: نسبة موهمة نعارض النفي في: (والشرّ ليس إليك)، فليس إليك شرعا، وإن كان لك خلقا.

و: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ):

فعموم النكرتين الواردتين في سياق الشرط: "ضر" ومطابقه: "خير": عموم محفوظ، وجاء بالإرادة لا المس في الخير في مقابل المس بالضر، فالقياس: وإن يمسسك بخير على جهة الطباق، جاء بالإرادة، إذ الآيات في سياق نفي تأثير غير الله، عز وجل، في وقوع المقدورات الكونية على جهة الاستقلال، فناسب ذلك الإتيان بلفظ الإرادة إمعانا في نفي قدرة غير الله، عز وجل، عن معارضة أمره الكوني بإيصال الخير، فمجرد إرادته لذلك، وإن لم يقع الفعل بعد، كاف في نفي المعارض، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالسياق: قيد في معرفة مراد المتكلم وفهم عبارته والوقوف على سر اختيار لفظ دون آخر، وللتنزيل من ذلك أوفر نصيب، ففي سياق نفي القدرة عن غير الله، عز وجل، على التفصيل المتقدم، جاء لفظ الإرادة، وفي سياق تقرير القدرة الإلهية دون التطرق إلى المعارض، جاء لفظ المس في آية الأنعام: (وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير).

ويواصل ابن القيم، رحمه الله، في بيان أعراض ذلك الفقر الاختياري النافع: فقر العابد إلى معبوده على جهة الاضطرار فلا غنى لقلبه عن شرعه ولا غنى لبدنه عن قدره، يواصل في بيان ذلك فيقول:

"والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أَعماله وأَحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إِلى دعوى ما ليس له. وكيف يدعى مع الله حالاً أَو ملكة أَو مقاماً من قلبه وإِرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئاً، وإِنما هى بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإِيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى انحل من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به. ولا يطاع إِلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى". اهـ

ص43، 44.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير