تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، فلا يطاع الله، عز وجل، إلا بإذنه إكراما للطائع إذ يسر له أسباب الهداية الشرعية: هداية البيان، والهداية الكونية: هداية الانقياد، فاجتمع في المكرَم: نوعا الهداية كما اجتمع فيه نوعا الأمر: الشرعي والكوني، كما تقدم، ولا يعصى إلا بإذنه الكوني، إهانة للعاصي إذ أقام عليه الحجة الرسالية بالبيان الشرعي، وحجب عنه هداية الانقياد، إذ ليس لها بأهل، فهو محل غير صالح لقبول آثار الرسالات النافعة، فانفرد المهان بجريان أمر الكون فيه، فلا خروج لطائع أو عاص عنه، وتَخَلُّف أمر الشرع على جهة الامتثال وإن وقع له من البيان ما قامت به الحجة عليه على حد قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). فذلك من العموم المحفوظ، إذ إقامة الحجة الرسالية المبطلة لكل حجة، الداحضة لكل شبهة، شرط في استحقاق الكافر بالرسالة: العذاب، فذلك من رحمة الله، عز وجل، وعدله، فلو كان الأمر جبرا، لكان بعث الرسل، عليهم السلام، بالحجج والبراهين المؤيدة بالآيات الشرعية والعقلية والكونية: عبثا.

ومع ذلك امتن على بعض عباده بما لم يمتن به على آخرين لعلمه بصلاح محالهم لتلك العطايا، فلو رفعها عن محل صالح ووضعها في محل فاسد لكان ذلك سفها يتنزه عنه آحاد الحكماء فكيف بأحكم الحاكمين، تبارك وتعالى، فانتفاء ذلك عنه مع إثبات كمال ضده من الحكمة الباهرة ثابت من باب أولى.

وفي عالم الشهادة: لو تفضل حكيم عليم على جماعة من البشر ببيان أسباب النجاة حضا عليها، وأسباب الهلاك زجرا عنها، ثم اختص بعضهم بالمعونة على امتثال الأولى واجتناب الثانية ما توجه إليه لوم، بل هو بالثناء أجدر، إذ قد دلهم ابتداء، بلا سابق فضل أو استحقاق لهم عليه، على ما فيه صلاح أمرهم، ولله المثل الأعلى، فإنه بكل ثناء أولى، وعن كل قدح أنزه وأبعد.

ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى مسألة تفاضل الإيمان زيادة ونقصانا في القلوب مع كون صور العبادات الظاهرة واحدة فقال:

"فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون في إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ". اهـ

فالإيمان كما تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة: قول وعمل: قول بالقلب عقدا مؤسسا، وقول باللسان: لفظا مصححا، فذلك مطلق الإيمان أساس بنيان الإيمان المنجي، فإذا انضم إلى ذلك عمل الجوارح، صار صاحبه من أهل الإسلام، فإذا ترقى في درجات الأعمال القلبية من خوف وتوكل ورجاء، والأعمال اللسانية من ذكر وتسبيح، والأعمال البدنية من صلاة وحج وجهاد، إذا ترقى في تلك الدرجات العلى، صار له من وصف الإيمان المطلق المنجي بحسب ما قام بقلبه من أثر تلك الأعمال الشرعية، فمن مقل ومن كثر، والتفاوت في ذلك: عظيم لا يحصيه إلا مصرف القلوب، جل وعلا، فالصورة الظاهرة، كما تقدم، واحدة، ولكن الصور الباطنة متعددة، ولذلك كان نظر الله، عز وجل، إلى القلوب لا الصور، إلى الحقائق القلبية لا الأعراض البدنية، وإن كان عمل البدن من الإيمان، فالإيمان يتضمنه تضمن الكل للجزء.

فالزيادة والنقصان فيه حاصلة إذ المركب من أجزاء، يزيد بوجودها، وينقص بعدمها، فيزيد حتى يصل إلى درجة الإطلاق، وينقص حتى يذهب فلا يبقى منه شيء على الإطلاق، فيخرج العبد من حده إذا أتى بناقض قلبي أو قولي أو عملي له، فلا يجتمع المنقوض وناقضه في محل واحد بداهة، فلا صلاة مع حدث إذ الحدث ناقض لشرطها، ولا صيام مع أكل، إذ الأكل ناقض لأحد ركنيه، فكذلك شأن الإيمان، إذ وجود الناقض رافع له، فهما مما لا يجتمع ولا يرتفع، فلا يجتمع أصل الإيمان وناقضه في قلب واحد، وإن اجتمع أصل الإيمان وناقض كماله المستحب أو الواجب، فالكبيرة تنقصه ولا تبطله إلا إذا ارتكبت على حد الاستحلال، بخلاف الكفر فإنه يأتي على أصله بالإبطال.

قال ابن عبد البر رحمه الله:

"أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ"

وبوب الترمذي رحمه الله:

بَاب مَا جَاءَ فِي اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ.

وبوب: بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ. فتلك خصلة عملية يتفاوت فيها أصحابها زيادة ونقصانا.

وفي "السنة" للخلال:

"أخبرني عبد الملك، قال: سمعت الزبيري أبا عثمان صاحب مالك، قال: كان مالك يقول: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص» "

(3/ 582).

و: "أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله، (أي: الإمام أحمد رحمه الله)، يقول: قال الله عز وجل: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) وقال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وقال: هذا من الإيمان، ثم قال أبو عبد الله: «فالإيمان قول وعمل، وقال: الزيادة في العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق» ". اهـ

(3/ 589).

و: "أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أن إسحاق بن منصور حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، حتى لا يبقى منه شيء» ". اهـ

(3/ 593).

وقال صاحب "معارج القبول" رحمه الله:

"وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم وأن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وإذا كان ينقص بالفترة عن الذكر فلأن ينقص بفعل المعاصي من باب أولى". اهـ

فمجرد الاشتغال بفضول المباحات ينقص الإيمان في القلب، وهذا أمره يجد كل مكلف في نفسه، فكيف بمقارفة المعاصي؟!.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير