تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى - فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَقَامُ الِاصْطِلَامِ وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ؛ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ فَأَلْقَى الْمَحْبُوبُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَهَذَا حَالُ مَنْ عَجَزَ عَنْ شُهُودِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِنْ السَّالِكِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا مِنْ السُّلُوكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ غَايَةَ السُّلُوكِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ غَلِطُوا فِيهِ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ شُهُودِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ طَلَبَ رَفْعَ إنيته بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى - فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَنْ اتِّبَاعِ هَوَاهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ". اهـ

وكل سائر على غير طريق النبوة فهو مظنة العدول عن الحق، بل له من ذلك نصيب ولا شك، بقدر عدوله عن الوحي المنزل، فإن الحق دائر مع النبوات أينما دارت، فهي الحكم العدل الذي قامت البراهين القطعية على عدالته بل عصمته فلا خطأ في بلاغها، فحملتها: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، ولا قدح في علومها وأعمالها، فعلومها أنفع العلوم وأعمالها أصلح الأعمال، وذلك جماع كل خير. فمن مقل ومن مكثر، فمن مقل قد زهد في علوم النبوات حتى خرج عن اتباعها بالكلية كالفلاسفة ومن على طريقتهم من غلاة أهل الطريق، إذ زعموا حصول النجاة من غير طريق الرسل، عليهم السلام، فانسخلوا من شرائعهم، إذ هي بمنزلة السياسات الأرضية التي يحكم بها المتملكة والمتأمرة، فغايتها أن تكون أعدل النواميس، إذ أصحابها أذكى الناس عقولا وأصحهم فهوما، وأوسعهم خيالا فعندهم من قوى التخييل ما يتلقون منه الوحي!، وأقواهم تأثيرا فعندهم من قوى التأثير الباطنة وفصاحة اللسان الظاهرة ما يحمل المستمع على تصديقهم واتباع طريقتهم، فهي، كما تقدم، أكمل الطرائق الأرضية!، وكل ذلك قدح صريح في النبوات بتسويتها بغيرها من الشرائع والسياسات الأرضية، وإنما غايتها أن تكون أكمل وأن يكون صاحبها أعلم وأحكم، دون أن يختص بطور زائد على طور العقل البشري، وهو طور الوحي الذي جعلوه محض خيالات وأوهام!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير