تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فغاية المائل عن طريقة النبوات إن كان من أهل الفضل، كخيار أهل الطريق الذي وقعوا في فناء الشهود بملاحظة القدر الكوني دون القدر الشرعي، غايته أن يعتذر عنه إذ له من محكم القول ما يرد إليه متشابهه، وله من صالح العمل ما يغتفر معه في حقه ما زل فيه، وإن لم يسلم له به، إذ الحق لا يعرف بأقوال أو أعمال الرجال، وإنما هو الحكم على أقوالهم وأعمالهم.

ويكاد الغلو في هذا الشأن يطرد:

فإن من غلا في العبادة والزهد على غير طريقة الرسل عليهم السلام فخرج عن حد الاعتدال، فإنه قد يظن في نفسه طهارة محل تسوغ حلول الرب فيه، إذ قد فني في المعبود، جل وعلا، على حد فناء أهل الاتحاد، فلم ير حدا بينه وبين محبوبه، وكل ذلك من غلو أهل الطريق الذين تجاوزوا الحد المشروع في المحبة، فأطلقوا عبارات العاشقين في حق رب العالمين!، فوقع في قولهم وعملهم ما أخرج فئاما منهم عن الدين جملة وتفصيلا، وذلك من شؤم الغلو في المقالات أو الأعمال، إذ مؤداه: الانقطاع عن طريق النبوات، بل الانتقال إلى ما يناقضها من طرائق أهل الزيغ والإلحاد، والنبوة حد جامع مانع لكل طرائق التزكية الشرعية: قولية كانت أو عملية، فلا يفتقر السائر على منهاجها إلى ما سواها من الطرائق البدعية في الأحوال القلبية أو الأقوال اللفظية أو الأعمال البدنية. وإنما عدل من عدل عنها لنقص في العلم، أو غلبة للهوى، فله، كما تقدم، من العدول عنها بقدر ذلك، فالجهل نقيض العلم، والهوى نقيض العدل، فالأول: فساد في التصور العلمي، والثاني: فساد في الحكم العملي، وهما متلازمان تلازم العلة والمعلول، ففساد القول علة فساد العمل، وفي التنزيل: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فأمره بالحكم بالحق، ولا يكون حق إلا بعلم راسخ، ونهاه عن اتباع الهوى فهو لازم نقيض الحق من الجهل. فدل ذلك على التلازم الوثيق بين: العلم والعدل من جهة، و: الجهل والهوى من جهة أخرى، فالعلم الصالح ذريعة إلى العمل الصالح، وفي المقابل: العلم الفاسد ذريعة إلى العمل الفاسد.

وقل مثل ذلك فيمن غلا في التعبد والتزهد، طلبا لرتبة النبوة، وهي رتبة وهبية لا تكتسب بمباشرة أسباب، فليست على حد الصنائع البشرية: شريفة كانت أو وضيعة، فقوله من جنس قول أهل الاتحاد، وإن لم يبلغ ما بلغوه من الخطل، إذ بتصفية المحل وتنقيته يصير قابلا لتلقي آثار الوحي، وذلك صحيح لو كان صاحبه قد زكى المحل بعلوم وأعمال النبوات، لا رياضات الرهبان والزهاد الخارجة عن حد الاعتدال إلى حد الغلو والشطط، وذلك صحيح لو أراد صاحبه تلقي آثار الوحي من العلم النافع والعمل الصالح لا تلقي الوحي الذي لا يستجلب بأسباب، وإنما هو محض هبة ربانية كما تقدم.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض نقد مقالة أصحاب فناء الشهود:

"فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار.

وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله، ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضًا لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية. (لأنه قائم على ملاحظة الأسباب، فيدفع الأعراض الكونية بما شرع الله، عز وجل من الأسباب الشرعية وبما سخر من الأسباب الكونية، فقدر غزو البلاد مدفوع بجهاد الأعداء، وقدر الجوع مدفوع بتناول الحلال ......... إلخ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير