ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائمًا، فقد افترى وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه، فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة، وما يسره أخرى.
فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية: قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا، لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز ........... وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، أو أن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك، فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل. ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل". اهـ بتصرف.
فقولهم إلى الجبر أقرب، وفيه من تعطيل السنن الشرعية والسنن الكونية ما فيه، إذ هو ذريعة إلى القدح في الشرع بتعطيل الأسباب، وذلك ذريعة إلى تعطيل الأمر والنهي، وهو عين ما وقع فيه من أوغل منهم في الفناء والتجريد حتى بلغ حد الحلول أو الاتحاد منتهى الضلال في هذا الباب.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبِّب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل وصاحبه ضال، وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده"
ص46.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الرسالة التدمرية":
"فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله.
ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين، ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالا مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك". اهـ
وذلك أصل في رد كل بدعة حادثة، إذ لسان حال المبتدع: طريقتي أصح من طريقة الرسل، ولسان حال المستدرك عليه: لو كان خيرا لسبقونا إليه، فالرسل عليهم السلام وأتباعهم أصح الناس أفهاما وأذواقا فتلك قوتهم العلمية النافعة، وأصح الناس ألسنة وإرادات وأعمالا فتلك قوتهم العملية الصالحة، فهم أعظم الناس حظا في باب: العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 09 - 2009, 07:54 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الفاقة والضرورة التامة الملحة للقلب الطالب لمعبوده حبا وتألها، فقال:
"وفى القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إِلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى إِن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإِن فاته فاته كل شيء. فكما أَنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره أَلبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، (وتأمل حال المحبين الذين تعلقت نفوسهم بالصور الفانية كيف عذبوا بها جزاء وفاقا، فلما شغلوا بالصورة عن مصورها لحقهم من العذاب بها ما يكافئ ذلك)، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان". اهـ بتصرف
ص49.
¥