تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد أجمع العقلاء، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، على أن في القلب فاقة عظيمة طلبا للصلاح بأسباب التأله الشرعية، كما أن في البدن فاقة عظيمة طلبا للصلاح بأسباب المطعم والمشرب والملبس والمنكح الكونية، بل إن فاقة الروح إلى مادة بقائها وصلاحها أعظم من فاقة الجسد إلى مادة بقائه وصلاحه، فمادة الشرع أشرف من مادة الكون، وإن كان كلاهما شريفا، فهما من هبات الرب الحميد المجيد، جل وعلا، وشرف العطية من شرف معطيها، فالهبة الربانية فرع عن أوصاف جمال الرب، جل وعلا، كما أن الهبة في عالم الشهادة: قدرا ووصفا فرع عن أوصاف واهبها، فلكل هبة قدر هو من قدر واهبها مستمد، ولله المثل الأعلى، فإنه أعظم من وهب وأكرم من أعطى، فهباته قد عمت كل الخلائق، فمن مستمتع بهباته الكونية، وإن لم يكن له حظ في هباته الشرعية التي أنزل بها كتبه وبعث بها رسله، عليهم السلام، فتلك همته الطينية إذ لم يتعد انتفاعه انتفاع بدنه من الخارج من تربة الأرض، فاستمتع بها بطنه وحرم من النظر فيها عقله، فنظره نظر الشهوة لا نظر العقل الذي دعت إليه النبوات، نظر: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ).

ومن مستمتع بهباته الشرعية قد أخذ من النبوات قسطا وافرا فاستقام باطنه وظاهره، على منهاج النبوة، فحصل له من كمال اللذة العقلية بالتدبر، وكمال اللذة الروحية بالتعبد، وكمال اللذة الجسدية بتناول المباح تناولا لا تبعة فيه على رسم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

فأتباع الأنبياء عليهم السلام: هم أسعد الناس بنعم الرب، جل وعلا، فهم في عيشة راضية في دار الابتلاء، وإن لحقهم من آلامها ما تتأذى منه الأبدان، إذ الأرواح صحيحة، بخلاف من اعتلت روحه فإن تنعم بدنه وسلامته من الآلام ليس بمغن عنه شيئا، إذ نفسه مضطربة لم تهتد إلى مادة الوحي المنزل: سبب سكونها ورضاها، فنعيم الأبدان الطينية لا تنتفع به الأرواح النورانية الباقية بعد فناء أجسادها، إذ لكلٍ غذاء به يتقوت، ولكل دواء به يصح، فمن أطعم الروح غذاء البدن، فتلهى بشهوات الجسد الحسية عن مطالب الروح العلية، فإنه كمن أطعم الرضيع لحما غليظا لا تقوى على هضمه أمعاء كثير من البالغين!، وذلك مظنة هلاكه وفساد حاله، فكذلك الروح اللطيفة إن قدمت لها مادة البدن الكثيفة.

وأشار ابن القيم، رحمه الله، إلى نكتة لطيفة في تقديم شيخ الإسلام الهروي، رحمه الله، غنى القلب على غنى النفس، فقال:

"وإِنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأَن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إِلى درجة الطمأْنينة لا يكون إِلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أَولى بالتقديم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سِائِرُ الْجَسَدِ، أَلا وَهِي القلب"، والقلب إِذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعاً تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإِخبات، فأَدت الحقوق سماحة لا كظماً بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغري الظاهر، (بالقوة العملية الصالحة)، والباطن، (بالقوة العلمية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير